حينما نشر كتاب العقد الاجتماعي في فرنسا الملكية عام 1762 لم تعره السلطات اهتماماً، أو تنتبه إلى ما فيه من خطر. ولم تدرك إلا في وقت متأخر أنه يحوي بنود نظرية الديمقراطية الحديثة، التي ستصبح عماد الأنظمة السياسية في جل مدن العالم، وتحل محل العديد من النظريات التي كانت تحكم منذ آلاف السنين.
بل إنها بعد (27) عاماً من هذا التاريخ تسببت بقيام الثورة الفرنسية الكبرى، وكانت ملهمة للثورات الأخرى التي أعقبتها في فرنسا، وبقاع العالم الأخرى.
كان جان جاك روسو واضع هذا الكتاب فقيراً مشرداً. حتى اضطره العوز يوماً للتخلي عن أطفاله الخمسة لأحد الملاجئ. ولم يحصل إلا على وظائف بسيطة في حياته، ومات في كوخ منعزل يملكه صديق له في قرية نائية عام 1778، قبل أن يكرس كأحد أهم صانعي الثورات في العالم!
وبموجب نظرية العقد الاجتماعي هذه يتساوى الملك والأمير وماسح الأحذية ومنظف الشوارع أمام القانون. ويملك كل منهم صوتاً واحداً له نفس القوة في صناديق الاقتراع.
وكان من الطبيعي أن يهش الفقراء والمهمشون و»الرعاع» لهذه الفكرة. وأن يهللوا لها بعد أن دخل في روعهم أن الإصلاح السياسي هو الحل السحري لمشاكلهم الأزلية.
وقد تبين لاحقاً أن الجياع على أتم الاستعداد لبيع أصواتهم مقابل رغيف خبز أو حفنة مال، وأن فكرة المساواة تحتمل الكثير من التأويلات!
والأغرب من هذا أن أعضاء المجالس التشريعية لا يكترثون كثيراً لوظائفهم التي اختيروا من أجلها. فبمجرد حصولهم على المقعد النيابي، ينسون تماماً أنهم ممثلو الشعب. وفي وقت لم يكن الإعلام قد تطور بعد، كان النواب لا يحضرون إلى مقر عملهم إلا لماماً، ولا يقومون بالمشاركة في أعمال المجلس إلا أحياناً قليلة.
وكان من الطبيعي بعد أن لمس الناس عدم جدية النواب وانشغالهم بالمنافع الشخصية، وما ترتب على ذلك من إهمال لأوضاعهم المعيشية، أن يعزفوا عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع. أي أن ما حدث في العراق عام 2018 وما قد يحدث فيه في وقت لاحق، عرفته أوربا قبل قرنين تقريباً.
ومع ذلك بقي العقد الاجتماعي ماثلاً في الأذهان، وبقي جان جاك روسو ملهماً للكثير من الأفكار والتحليلات في أنحاء متفرقة من العالم. فالمبادئ التي وضعها في كتابه هذا لا يمكن أن يتجاهلها أي سياسي، مهما كانت درجة وعيه. ولا يمكن لأحد منهم أن يدعي أن القوة تصنع الحق أو أن الناس يتخلون عن حريتهم عن طيب خاطر، أو أن من المصلحة أن ينفذ القانون من يضعه للناس!
ثمة أفكار عظيمة اعتقد روسو أنها ستنصف المظلومين في هذا العالم، وقد تسهم في القضاء على مشكلة اسمها التفاوت. لكن هذه المشكلة التي سبق أن درسها في كتاب سابق له استعصت على الحل، وكادت تطيح بنظريته بعد سنوات قليلة من وضعها موضع التنفيذ في أكثر البلدان تقدماً واستنارة.
محمد زكي ابراهيم