شكيب كاظم
في كتابه (القلب المفكر. القصيدة تغني ولكنها تفكر أيضاً) الصادرة طبعته الأولى عن دار المتوسط بميلانو الإيطالية سنة ٢٠١٧، يدرس الشاعر والناقد العراقي فوزي كريم، القصيدة المفكرة، قصيدة الأفكار، وهو يرى فقر الإرث الشعري العربي منذ أيام الجاهلية بهذا اللون من القصيد، وحتى أيامنا الحاضرة، واحتفاء القصيدة العربية بالمهارة وبلاغة اللفظ على حساب المحتوى والمضمون، وهو ما أفاض فيه نقادنا القدامى والمحدثون، حتى إن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( ١٥٠-٢٥٥) ينحاز إلى قصيدة الشكل واللفظ، لأن المعاني- في رأيه- مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك، ويضيف الجاحظ في كتابه ( الحيوان) مؤكداً، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.
من نظم القصيدة المفكرة؟
فوزي كريم، يتعاطف مع القصيدة المفكرة، والشاعر المفكر، لابل يراها تستدعي موهبة خص بها كائن حي بعينه، وهذه الموهبة لا تستقيم من غير هذه العناصر أو المصادر الأربعة: العقل، والمخيلة، والعاطفة والموسيقا.
فوزي كريم، وهو ينظر إلى ثقافة الصحافة العجلى، وثقافة الفيس بوك المسطحة، ويرى الرطانة المتبادلة بين الكثير من نصوص الشعر والنثر وبين قرائه، وافتعال الرطانة باسم التجريب، يأسى ويأسف، فضلا عن اساه بشأن الشعر المؤدلج الملتزم بأفكار حزبه، ناسياً الإنسان وآماله وطموحاته وتشوفاته، لان الفكرة المقدسة لدى هؤلاء الشعراء، تعلو على قداسة الإنسان، الذي يمجدونه زورا ويسحقونه حقيقة، في أوطان الجماجم والدم، فهدموا الدنيا وهدموا الوطن، لذا رأينا خفوت تأثير مايدعونه الشعر الملتزم، وانفضاض الناس عنه، لابل حتى مغادرة منطقة الشعر جملة.
فوزي كريم في كتابه ( القلب المفكر) يقف عند القصيدة المفكرة، بدءا بأول نص أنتجه العراقي، هو الذي رأى وفكر في ملحمة ( قلقميش) – وأنا هنا أميل إلى تسمية الباحث العراقي الدكتور عبد الحق فاضل الذي ترجمها شعراً، فتخلصنا من الگاف الأجنبية، والجيم التي تتحول إلى الحرف ذاته عند كثير من العرب، ومنهم المصريون واهل جنوب اليمن-وكذلك الشاعر الإغريقي تيتوس لوكريتيوس، ودانتي في (الكوميديا الإلهية)، والشاعر الألماني كوتيه عبر ملحمته (فاوست)، والمعري العظيم، وعمر الخيام، وجلال الدين الرومي، وريلكه، والشاعر اليوناني الشيوعي ييتس ريتسوس، فضلاً عن توماس ستيرن ايليوت، واخيراً الشاعر البولندي تشيسلاف ميووش، المولود في مدينة ليتوانية في بولندة سنة ١٩١١، والحائز على جائزة نوبل للآداب سنة ١٩٨٠ ، والمتوفى سنة ٢٠٠٤.
وإذ كانت بعض هذه الأسماء غير معروفة لدينا بصورة جيدة، مثل لوكريتيوس وميووش على الرغم من نيله نوبل، فلا ريب أننا تفاعلنا مع فصول الكتاب التي درست الشاعر الفيلسوف أبا العلاء المعري، المولود في معرة النعمان عام ٣٦٣، ودفينها عام ٤٤٦، ولم يغادرها سوى إلى بغداد عام ٣٩٨ وليبارحها نحو معرته عام ٤٠٠، بعد ذلك الحادث المؤسف الذي جرى مع الشريف المرتضى، ولعل من أروع فصول كتاب ( العقل المفكر) الفصل الذي كتبه الدكتور عبد القادر زيدان وعنوانه (الشعر الفلسفي العربي) وهو مستل من كتابه (قضايا العصر في أدب أبي العلاء المعري) الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب سنة ١٩٨٦،اذ إن فوزي كريم ضمن كتابه هذا منتقيات مما قرأ في هذا المجال.
الدكتور زيدان يتحدث عن عبثية الحياة في منظور أبي العلاء، لذا كان يكيل العتاب، ولكن بأدب إلى أبويه اللذين كانا سببا في مجيئه إلى هذه الدنيا، التي نوى مرات عديدة على مبارحتها لكن يخشى التبعة والحساب وقدومه على الجبار قائلا:( لو أمنت التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب حتى أخلص من ضنك الحياة، ولكن أرهب غوائل السبيل) تنظر ص١١٦.
وهنا تحضرني الرسائل المتبادلة بينه وبين داعي الدعاة الفاطمي في مصر، الذي أقحم نفسه على حياة أبي العلاء المتنسكة المعتزلة للناس وللدنيا وتطفل عليها، تقرا الرسائل فتجد البون الشاسع بين العقليتين، هذا العقل الضاج بإطلاق الأسئلة، وذاك العقل المستكين البليد.
في فصل عنوانه ( قصيدتان: سعيد عقل وأبو شبكة) يتحدث عن قصيدة الشاعر اللبناني المعروف سعيد عقل ( ١٩١١- ٢٠١٤) الجميلة المفكرة التي تقترب من شعر الرمزيين، فضلا عن قصيد الياس أبو شبكة (١٩٠٣-١٩٤٧) قصيدته المفكرة التي تقول شيئا في محاربة الشرور والآثام، وتقديم صورة جديدة عن المرأة، نافضاً عنها رداء الدمية الحلوة اللذيذة، حتى إذا وهن العظم واشتعل رأس سعيد عقل شيبا، ونضبت النزعة الشعرية الجمالية، غادر عوالم القصيدة تلك لينغمس في قصيدة السياسة، تورمت- كما يقول فوزي كريم- لديه مشاعر حب لبنان، وصار يتحدث بكراهية عمياء، شانه شأن السوقة في معترك السياسة العربية، والأمر ينسحب على نزار القباني، الذي كان يكتب قصائد الحب والحنين فأمسى يكتب بالسكين، سلعة بالغة الرواج في السوق، ولكن الرائع أن الوليد الشائه هذا لا يستطيع أن يغيب قصائد المرحلة الأولى الوفية لحاسة الجمال. تنظر ص ٢٦
قد لا أتفق مع الباحث الشاعر فوزي كريم في تخريجاته هذه، فالتغيير الذي ران عليهما وغيرهم كثير، قد حصل بسبب كارثة الخامس من حزيران ١٩٦٧ التي قلبت الدنيا العربية، فتهاوت حكومات، ورحلت من تداعياتها زعامات، ورقأ مد فكر، سيطر على الحياة العربية أكثر من عقد من الزمان، المد القومي الذي فجره تأميم قناة السويس في تموز ١٩٥٦،وزاده سطوعا إبرام الوحدة المصرية- السورية في شباط١٩٥٨ ، لابل إن حركات سياسية غادرت أفكارها لترتمس في الفكر الماركسي، بل في الفكر التروتسكي، فلقد تطامنت الماركسية وتحولت إلى نهج دولة لا فكر الثورة الذي جسده وقتذاك ارنستو- جي_جيفارا في البؤر الثورية وحرب العصابات، والفرنسي ريجيس دوبريه وكتابه ( ثورة في الثورة) الذي كان المقاتلون يحملونه معهم كما يحملون الكلاشنكوف، وانطلقت حركة المقاومة الفلسطينية فكرا وتطبيقا، فكرا من خلال الدراسات والشعارات:( لتكن أكثر من هانوي واحدة) أو فيتنام واحدة، ومقولات لنين تزين صدر مجلة ( الهدف) لسان حال حركة القوميين العرب وجناحها العسكري؛ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الطبيب جورج حبش، وتجاوزت دنيا النكسة أفكار زكي الارسوزي وساطع الحصري والحكم دروزة.
إذن هل كان هذا اعتذارا من سعيد عقل للأمة على ما فرط في جنبها، هو الذي كان ينادي بالكتابة بالحرف الفينيقي بوصف اللبنانيين أحفاد أولئك، ودعوته للكتابة بالمحكية اللبنانية العامية، وترك الفصيحة ونشر في هذا اللون ديوانه الشعري (يارا) أعتذر لأمته فكتب قصائد (زهرة المدائن) و(القدس العتيقة) و(القدس على البال الآن الآن وليس غدا) وشدت بها الرائعة السيدة فيروز.
وهل هي توبة نزارية، الذي أمضى العمر يكتب شعره بقلم أحمر شفاه الحسناوات، ليكتب قصائده على دفتر النكسة؟ فهي يا نزار ما كانت نكسة، وما كان يلزمها دفترا بل مجلدات!
كتاب (القلب المفكر) الذي يدرس فيه فوزي كريم القصيدة التي تغني فضلا عن كونها تفكر أيضاً، لا يقدم على قراءته إلا قارىء يفكر، فهذا الناثر من طراز رفيع، تجلي وتجلو نثره وتزينه ثقافة واسعة رصينة، وينماز بأسلوب اسر- كما يصفه الدكتور حسن ناظم- بحاجة إلى مثل هذا القارئ، قارىء يفكر.