علي سعدون
يقيناً ان العلاقة بين الرواية وبين النقد، هي علاقة جدلية واشكالية تتمثل بطريقة التعاطي الادبي لكل منهما. وهما جنسان أدبيان يأخذان أهميتهما من تواشج المعرفة والخطاب الابداعي بالعلاقات الانسانية المعقدة التي بات يرزح تحت وطأتها الانسان المعاصر المعذب حتف أنفه. إذ تبدأ هذه العلاقة بتناغم أدبي، يسعى لتحقيق نوع من (العلمية) في قراءة النص المكتوب (سواء أكان حكائياً بسيطاً أم سرداً مركّباً ومعقّداً)، لكن هذه العلمية التي توخاها النقد الأدبي على إمتداد فترة طويلة، سرعان ما تحولت الى ما يشبه النديّة في قراءة السرد على وجه التحديد، وهي نديّة تتجسد في انطلاقهما معاً نحو أهداف محتدمة في حدّ ذاتها، ويجري ذلك من خلال المناهج الحديثة التي يقف في مقدمتها النقد الثقافي بسبب من اهتمامه بالسياق أكثر من اهتمامه بحيثيات وجماليات وزخارف النص. ويمكننا عدَّ هذه المواجهة إبتداءً، نقطة تحول أولى في تخلّي النقد عن بعضٍ من صرامته العلمية، مثلما ستتخلّى الرواية عن بعض من قوالبها الحكائية الشائعة وتنهمر في جدليات ثقافية صرفة تؤهلها أن تكون بحثاً من بحوث السوسيوثقافي، وبالتالي، تتخلى عن إشتراطاتها الكلاسيكية المعروفة بوصفها حكاية طويلة غايتها الإمتاع من خلال مضامين وتوجهات تخضّبها الحكايةُ فتنتج سرداً مبنياً وفق صورة الرواية الراسخة التي نعرفها.
هذه الاشكالية الهائلة، هي البوابة التي جعلت من الرواية ونقدها وتحليلها والاهتمام بها هدفاً من أهداف النقد الثقافي، وهو هدف يتناغم وينسجم كثيراً مع انشغالاته السياقية التي تتوجّه صوب الحياة من خلال الأعمال الأدبية. الحياة الحقيقية بوصفها صورة مصغرة من الحياة الكبرى، يصنعها النقد الثقافي عندما يريد ان يحتفي بالمعقول واللامعقول في الرواية، بالمغزى والهدف والرسالة الاخلاقية والانسانية، فيعمل على تفكيكهما ومعرفة قدرة كل منهما على الأتيان بالفن بطريقة فذّة وعظيمة. وبوسعنا أن نخوض طويلاً في هذا النسق الهائل من المعرفة لإستشراف مستقبل هذين الخطابين، خطاب النقد الراهن وخطاب الرواية الجديدة.
ان الأعمال الروائية التي تضمّنتها تطبيقاتُ كتاب «الأرهاب والسرد» لصادق ناصر الصّكر، كانت قد تركت أثرها على الناقد، ولم تكن بطبيعة الحال أعمالاً عادية أو سطحية، على الرغم من الهجوم اللاّذع الذي مارسه الناقد السياقي على حيوات أبطال هذه الروايات وسارديها. فلم يكن التكنيك هاجسه الأول كما يَعد في مقدمة الكتاب من انه لن يغفل الجماليات النصية وسيوليها إهتماما هذه المرة..، انما يريد أن يصل الناقد في هذه المدونة، أن حياة هؤلاء وطريقة تعاطيهم لموضوعة الإرهاب كانت غامضة وبسيطة وغير جديرة بكسر الصورة النمطية العادية لتفكيك هذه المنظومة العقائدية الصلدة، وبالتالي فان الحديث عن إخفاق هؤلاء في تصديهم للإرهاب من خلال الرواية أو من خلال الفن، كان بمثابة العقدة التي أختلفت حولها إتجاهات النقد في هذا الكتاب مع ما ذهبت اليه هذه الروايات.
وفي الواقع، ان زمناً سيمر من دون مكاشفات حقيقية بين كاتب الرواية والناقد – مثل هذه التي تجري في هذا الكتاب – ، ستكون بمثابة الجوهر للخسارات الثقافية التي تتراكم حولنا كلما تقدّمت بنا السنوات العجاف ثقافياً واجتماعياً ودينياً وسياسياً، وبالتالي فان المكاشفة التي يخوضها الصكر في هذا الكتاب، تتمثل في واحدة من المحاولات التي تريد ان تنتشل هذا الفن العظيم من رتابته ومن إخفاقاته التي ستبدو بعد الفراغ من هذه القراءة، انها كانت مضمرة وغير واضحة للعيان، وان فضيلة الصكر، ستكون في إجراءات التفكيك التي تحتاج الى خطاب نقدي يعبر خطوط المقدس الى ضفة الفن الذي بوسعه أن يكون مقدساً هو الآخر إذا ما أصرَّ على تحقيق أهدافه في التعالق الحي بينه وبين جمهورٍ واسعٍ من القرّاء الذي يقرأون الروايات بنهم وباهتمام بالغ ويتطلّعون الى رؤية أرواحهم وحيواتهم في متونه وهوامشه. فهل أخفق حقاً هؤلاء الروائيون في إنتاج خطابٍ يهشّم فكرة الإرهاب الكالحة وينتصر إلى قيم الانسانية العظيمة بوساطة الفن؟؟.، الفن الذي وقف في بعض من هذه الروايات متفرجاً وناقلاً لصورة تلفازية نعرفها نحن القرّاء من دون الحاجة إلى وصفيات منقولة عبر السرد البارد.
يتدخّل صادق ناصر الصكر أيديولوجياً في معظم هذه الروايات، ليس بوصفه ناقداً فحسب، إنما بوصفه منتجَ نصٍ إبداعيّ محكوم بنوازع الايديولوجيا أيضاً، وأعني هنا على وجه التحديد، قدرة النقد الثقافي على إنتاج خطابٍ يحتمل العبارات المجازية أسوة بالنص الإبداعي المراد نقده. أشير هنا إلى عبارات بلاغية تملأ متن الدراسات المنتظمة في هذا الكتاب، وهي سابقة في النقد العراقي بشقيّه النصي والسياقي. أعني ان هذا الناقد، يصرُّ على أن النقد الجديد/ النقد الذي يبتكر صيغَهُ وعناوينَهُ واسلوبَهُ، يمتلك القدرةَ على الإنزياح في الخطاب حتى وهو يخوض في المسائل العلمية المعقّدة التي تخص معمار الرواية وبنائها وجمالياتها واسلوبها. هذه بتقديري الشخصي، علامة فارقة في الخطاب النقدي الجديد ستحتاج منّا الى فحصٍ ومعاينةٍ كبيرين. واذا ما سلّمنا بتدخله الايديولوجي هنا، فإننا على يقين من ان المثقف التنويري الذي يقرأ الاشياء الحرجة في الحياة بمنظار الاعتدال والحماسة التي تنطلق من مسوغات انسانية صرف، بمقدوره ان يعتمد الخطاب الثوري الأيديولوجي ايضا لمناهضة القبح الذي يتفشى في الحياة والروايات على حد سواء. التنوير ايديولوجيا مضادّة لما سواها في الفكر والادب والفنون. اعني ان صادق الصكر كان أيديولوجياً في الفصل الأول من الكتاب وهو فصلٌ طويل يمثل جوهر الكتاب وخلاصة رسالته النقدية والأخلاقية والأنسانية.
أقول يتدخّل الصكر ايديولوجياً في مسار بعض من الروايات – إن لم تكن كلها بطبيعة الحال -، فمثلا، سيقوم الناقد الصكر بتوجيه مسار رواية «مقتل بائع الكتب» لسعد محمد رحيم نحو تخوم السرد الذي يدير ظهره لواقعة الارهاب، حتى يخيل إلينا – نحن قرّاء مقتل بائع الكتب –، ان الناقد، يريد من تلك الرواية أن تكون ذات نوازع تعبوية تنكبُّ على الإرهاب وحده وتدير ظهرها للفن الذي أنهمر في تلك الرواية التي تحفر عميقاً في الحياة العراقية التي يمثل الارهاب واحداً من علاماتها ولم يكن علامتها الوحيدة. الحال ذاته سينطبق على رواية «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، من حيث شكل الرواية وجوهر اشتغالها الفنتازي، وقد أراد لها الصكر أن تنشغل بفكرة الإرهاب وتدير ظهرها للإرهاصات الاخرى في الحياة العراقية، الأمر ذاته سيخص «فندق كويستيان» لخضير فليح الزيدي، وسينسحب على أكثر من رواية عراقية في تطبيقات هذا الكتاب. وما أعنيه فيما تقدم على وجه الدقة، ان الصكر يحمل ايديولوجياه في كل ما يكتب، حتى وهو يكتب متوخيا الحياد الذي يزعم النقد على الدوام انه من اولى اهدافه في القراءة الجادة .
يخلص هذا الكتاب الى نتيجة ستراتيجية في قراءة الرواية، وهي إن الروايات التي تعرّضت لموضوعة الارهاب بنوعيها الشهيرين (روايات الداخل وروايات المنفى) لم تستطع في معظمها من كسر الصورة النمطية للإرهابي الذي يفسد الحياة، مثلما لم تستطع هذه الروايات من تفكيك منظومة الفكر الارهابي المخضب بصبغة دينية جوهرها وأساسها الخطاب الديني البشري، وبالتالي هناك نزاعان بشريان على المقدس لا يمكن الجزم بصحة إحدهما، إلاّ بعد أن تتضافر جهودُ الخطابات الابداعية السردية في صنع الشخصيات التي بمقدورها أن تقوم بالإجراء النقدي الصارم لهذه الاشكالية الكبرى التي تجرُّ وراءها مسافاتٍ شاسعة من الدماء البريئة. فيعمد (الصكر) الذي يأخذ هنا دور المفكر أكثر من انحيازه لدور الناقد، إلى فض الإشتباك بين خطابات التدين البشري، وبين مسرودات تدور حول الأرهاب دون أن تمسك بتلابيب روحه الكالحة.
هذا الكتاب، ذو الجهد النادر، يعيد إلينا متعة قراءة الخطاب النقدي الذي لا يستنسخ بعضَهُ، انه كتابٌ يريدُ أن يصطفَ بلغتِه المجازية العميقة في النسق الذي تقف فيه الاعمال الابداعية، وسيلتصق كتفُه بأكتافِ تلك الخطابات المبدعة التي تُشي بالجديد وتعد العدةَ لاقتحام غاباتٍ مجهولة لم تمرّ عليها فؤوس الحطابين من قبل، هذا الكتاب، وبحجة النقدية الثقافية، يفتح باباً من أبواب تفكيك المنظومة المقدسة التي تتيح للجريمة أن تتنفس على الدوام بالدم والرعب الهائلين. نعم إنها المنظومة المقدسة التي تغلّف نفسها بغلالات تبدأ ولا تنتهي.
* الارهاب والسرد / صادق ناصر الصكر / دراسة / دار سطور للنشر والتوزيع / بغداد / ط1 / 2018