عبد الحي مسلَّم .. فنان فطري دوَّن “بالرليف” والألوان موروث شعب هُجرَ واغتصبت بلاده

محيي المسعودي
تكمن قيمة وأهمية أعمال الفنان الفلسطيني الفطري الراحل عبد الحي مسلّم، في مهمة بعينها، وهي: تدوين مثيولوجيا وتراث انساني في مكان جغرافي معروف، مكان تعرضت موجوداته للتخريب والسلب والنهب ومحاولات الطمس والتشويه من قبل ثقافة مشوهة ومن قبل انسان تنكر لبلاده، وهاجر منها من أجل عقيدة دينية متخلفة، ومبنية على خرافة “الارض الموعودة “… وهذا الانسان وهذه الثقافة لا يريدان لهذا المكان أن يحمل أية دلالة أو رمز أو إشارة، تشير الى موطنه الحقيقي وثقافته وتراثه. وفي خضم هذا الصراع الثقافي الانساني، كانت الفطرة وحدها هي أداة عبد الحي مسلّم، لكي يدوّن هذا التراث انطلاقا من ثقافته وذاكرته اللتين تشكلتا ابتداءً في قرية الدوايمة التابعة لـقضاء الخليل في فلسطين المحتلة، والتي ولد فيها مسلّم عام 1933.
عاصر الفنان عبد الحي مسلّم كل الوقائع والاحداث التي شهدتها فلسطين والمنطقة العربية خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، – وخاصة ما يسمى بالنكبة – فأثر وتأثر بها كثيرا. ولأنه انسان شفاف وبسيط، وفي داخله فنان حقيقي، لم ينزاح للسياسة وأخواتها، مع أنه كان جزءا منها. وكانت بساطته وشفافيته تلك تحمل في ثناياها فطرة فنية غنية وصادقة، جعلت منه أعظم وأكثر تأثيرا، وفعلا من أي سياسي عاصره. خرج مسلّم من فلسطين الى مخيمات فلسطينية في دول عربية عديدة، وفي ذاكرته كمّ هائل من الموروث الفلسطيني. كالعادات والتقاليد والطقوس الدينية والاجتماعية، إضافة للفلكلور والشخصيات الاسطورية، والشعر والملاحم الشعبية والأعراس وغيرها الكثير. هذه الذاكرة المحمّلة بالموروث الفلسطيني الهائل، ظلت تبحث في ذات الفنان عن أداة لتدوين مخزونها الذي قد يسقط منها مع تقادم الأيام أو تتغير ملامحه نتيجة الاحتكاك بموروثات أخرى فرضت وجودها على مسلّم بحكم مناطق سكناه المختلفة. وظلت ذاكرته تبحث عن سبيل جمالي وفني تخلد موجوداتها من خلاله، حتى اكتشفت ذات مرة الفطرة الفنية في هذا الكائن المتميز، الفطرة التي انفتحت باتساع كبير لتمرير تراث وتاريخ شعب عمره آلاف السنين، شعب انشغل -في تاريخه المعاصر- بالسياسة بعد أن شرد وهُجر من بلاده وقتّل من تبقى منه أو حُكم بالرصاص والأسوار العنصرية والحصار.
الفطرة وأدواتها وموضوعاتها في العمل الفني
ولأنه لم يدرس الفن التشكيلي في مدرسة أو معهد أو كلية، كان لا بد له أن يكون محكوما بالفطرة، وهي التي تصوغ عمله الفني من حيث طريقة العمل والشكل والمضمون، فهو لم يدرس علم التشريح ولا فيزياء الضوء ولا كيمياء وفيزياء اللون وغيرها من علوم هذا الفن، ولم يدرس عن مدارسه المتعاقبة. لذلك كان سطح لوحته الفنية سطحا تفاعليا بامتياز ومتغيّرا دائما، وقابلا للإضافة والاختزال والتحولات التي تحدث أثناء تنفيذ العمل، وحتى الانتهاء منه. وتأكيدا لفطرته، اختار مسلّم فن النحت البارز أو الغائر، أو ما يسمى بـ ” الريليف ” انطلاقا من أن هذا الفن هو فن يدوي بدائي يمارسه معظم الناس ومنذ فجر التاريخ في طفولتهم بمواد مثل الطين. ولكن الفنان مسلّم اختار لتنفيذ أعماله الفنية مادة مختلفة، ولكنها بسيطة، وربما متوفرة في بيئته عند شروعه في مشروعه الفني، هذه المادة هي نشارة الخشب والغرة. والتي ربّما جاء اختيارها من وحي تاريخ هذا المكان الذي اشتهر بشخصيات لها الحضور القوى في انثربولوجيا المكان، مثل السيد المسيح الذي عمل نجارا ويوسف النجار وشخصيات أخرى. وكانت بدايات مسلّم بسيطة لا تتعدى شكل إنسان بزي فلسطيني. ولكن هذه البدايات تطورت سريعا لتشمل معظم الموروث الفلسطيني في لوحات مركبة ومعقدة في الأشكال والمضامين وحتى الاشارات الصورية والكتابية مثل الشعر الشعبي. ويلاحظ في أعمال مسلّم أنه يحاول دائما المزج بين الرسم متمثلا بالألوان وبين النحت متمثلا “بالريليف”.. إذن: الفطرة اختارت موادها لتنفيذ مخزون وعي الفنان. بينما مارس الوعي – عند مسلّم – دور استحضار الموضوعات والقضايا حسب تأثيرها ” الآني” على الفنان. ومع التطور الكبير على ثقافة ومعرفة الفنان خلال العقود المنصرمة، الا أنه بقي مخلصا لقريته الدوايمة في إسترجاع موضوعاته وألوان لوحاته، والروحية التي يودعها أعماله الفنية. والمتذوق لأعمال مسلّم يشمّ رائحة القرية الفلسطينية وعبق نسائها، ويكاد يسمع تلك اللهجة القروية بكل وظائفها اليومية والموسمية والمناسباتية، وهو بهذا يُعد فنانا فطريا قرويا أبدا. وأعتقد أن نجاح هذا الفنان يرجع الى صدقه الكبير الذي كان وظل يستمد تأثيره من القرية. وتزدحم معظم لوحات مسلّم بحشود بشرية فلسطينية، ذلك لأن موضوعة اللوحة غالبا ما تكون تصويرا وتعبيرا عن مناسبة اجتماعية كالأعراس والطهور والرقصات والمجالس الشعرية والأعياد كعيد الشيجور أو ما يسمى ” شم النسيم” أو المناسبات الدينية كالصيام والإفطار والصلاة وغيرها، أو مواسم العمل والزارعة، كالعودة من جني الثمار والحصاد. وترتقي بعض الأعمال حتى تصل الى حد تمثل فيه ملحمة انسانية. ولم يكتف مسلّم بالحشود البشرية والملاحم في لوحاته للتعبير عن قضايا ومناسبات اجتماعية ودينية عامة، بل نراه في لوحات أخرى يجسّد العلاقات الثنائية بين البشر، كعلاقة الحبيب مع حبيبته والأم مع ولدها والزوج مع زوجته والضيف مع مضيّفه، والأب مع ابنه، وغيرها من العلاقات الثنائية والشجون الفردية، كعلاقة الفلسطيني مع أرضه وبلده. وحنين المهجّر الى بيته ومنطقته، إضافة الى مواضيع أخرى مختلفة كالإرث الكنعاني، إذ نجد بعض الرموز والإشارات، كالتشكّلات المختلفة لـ “بعل” راكب الغيوم، وهناك المراكب القديمة التي تشقّ عُباب الماء، والنساء اللواتي يطرن، أو يتحولن إلى أشجار.. ومع كل هذا تظل أعمال مسلم تُعنى وتزخر بالزي الفلسطيني المتنوع والمتميز وخاصة زي الريف الذي ينحدر منه الفنان. مما جعلها أعمالا تتخذ دور المُوثق والمرجعية الفنية للزي الشعبي الفلسطيني والحياة الفلسطينية بشكل عام.
الفطرة والشروط الفنية العلمية
قد يجد النقّاد والمتخصصون – بالفن المحكوم أكاديميا – خروجات في اعمال مسلّم عن الضوابط والمقاييس العلمية الفنية، وخاصة في علم التشريح والتلوين، ذلك لان الفنان لم يدرس هذا الفن في الاكاديميات المتخصصة، وهو يعمل من وحي فطرته التي ضبطت له الكثير من تكوينات اعماله وحققت له الكثير من شروط العمل الصحيح، ولكنها لم تبلغ الكمال في الضبط الفني العلمي ولم تحقق كافة الشروط الفنية. وهو بهذا مثله مثل الكثير من الفنانين الأكاديميين. ولكنّ بعض هذه الخروجات عند مسلّم تحسب على أنها إبداعا وتمردا على المألوف الذي يقيد الفنان ويقزم تجربته. مع كل هذا، لا أحد يستطيع التقليل من ابداع وعطاء وتجربة هذا الفنان الفطري الذي يُعد من أفضل الفنانين الفطريين العرب، إذ يمتلك رصيدا هائلا من الاعمال الفنية المهمة والمتميزة في موضوعاتها وأشكالها ووظائفها الفنية والتراثية والتاريخية. وقد أقام مسلم أثناء تجربته الفنية الطويلة سلسلة من المعارض التي جاب بها أنحاء العالم معرفا بالتراث والثقافة والانسان الفلسطيني العربي.
أعمال فنية تستحق أن يكون لها متحفا خاصا
أعلم أن لدى الفنان عبد الحي مسلم مئات الأعمال في مشغله بسوريا، وفي بيته في العاصمة الأردنية عمان وفي أماكن أخرى. ناهيك عن الأعمال التي اقتنتها مؤسسات ومنظمات فلسطينية وأردنية وعربية وعالمية، وأخرى اقتناها أناس محبون ومتذوقون لفنه، وأمام هذا الكم الهائل من الأعمال، وأمام الأهمية الكبرى لهذه الاعمال التي تدوّن تراثا وتاريخا فلسطينيا مهددا بالطمس والتهميش والنسيان والسرقة. أمام كل هذا، لابد من التفكير بطريقة ما، من أجل حفظ هذه الأعمال، والاستمرار بعرضها كمنتج فني إنساني يسجل تراثا وتاريخا مهددين بالزوال. وهذا الحفظ هو من مسؤولية المنظمات العربية والعالمية المعنية بهذا الامر، خاصة وإن الفنان عبد الحي مسلّم أصبح فنانا عالميا، وقد رحل في الأردن عام 2020 عن عمر ناهز87 عاما. وإنني في هذا المقال أدعو المنظمات الفلسطينية والاردنية بشكل خاص الى السعي من أجل تشييد متحف خاص لأعمال هذا الفنان. تعرض فيه أعماله بشكل دائم الى جانب سيرته الفنية، ليكون هذا المتحف ضمانة لحفظ التراث الفلسطيني من خلال هذا الأعمال. ويا حبذا لو ضم المتحف تمثالا للفنان مسلّم، إضافة لتماثيل من الشمع تحاكي موضوعات أعمال الفنان الخاصة بالتراث والتقاليد والازياء الفلسطينية، ليكون هذا المتحف نبراساً وملهماً للأجيال القادمة من أجل التواصل مع التاريخ والتراث الفلسطيني وتعزيزه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة