يسرى الجنابي
تتفاوت أجوبة الروائيين العرب على هذه التساؤلات، فالروائي اللبناني إلياس خوري يعتقد بأن الكاتب لكي يصير عالميا «لا بد من أن يُترجم إلى الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، أما إذا تُرجم إلى الصينية أو التركية أو الفارسية، فهذا لا يساعده كي يحظى بلقب كاتب عالمي».
ويجد الروائي السوداني أمير تاج السر أن “الكاتب العالمي هو الكاتب الذي يحدث هو أو نصه المترجم تأثيرا ما لدى جمهور أعرض من جمهور القراءة الروتيني الذي يلهث وراء الكتب جيدها ورديئها، وأن يكون مدرسة كتابية تؤثر في أجيال كتابية في أيّ لغة يترجم إليها».
ويرى الروائي الأردني الراحل إلياس فركوح أن العالمية لا تقاس بالترجمة، ويشدد على ضرورة اكتناز الروائي قدرا كبيرا من المعارف، والأبعاد الثقافية والفنية، والعيش، والتحلي بالصبر، والتأني، والتأمل قبل مباشرته الكتابة، وأن يلقي خلف ظهره بكل صنوف الشهرة والرواج الشعبي/الشعبوي، وأن يسأل نفسه بصراحة لماذا يكتب، ثم يجيب بصدق.
أما الروائي الجزائري بشير مفتي فيذهب إلى “أن معايير العالمية يحددها الغرب المنتصر اليوم وربما سوق الكتاب الخاضع لمنطق تجاري أكثر منه أدبياً».
في كتابه «المتخيل المشترك: الرواية العالمية الجديدة»، الصادر حديثاً عن دار فضاءات في عمّان، والذي يقارب فيه عدداً من قضايا الإبداع الروائي وأسس التخييل الأدبي بالتطبيق على مفهوم الرواية العالمية الحديثة، يرى الناقد المغربي محمد معتصم أن الرواية لكي تكون عالمية لا بدّ من أن تكون هي وصاحبها قد حققا المقروئية الواسعة، وما يعنيه ذلك من ضرورة ترجمتها إلى عدد من اللغات الحية، وأن يكون كاتبها نفسه قد عُرف بين الناس في عصره كروائي، وأن يشهد له النقاد كذلك بالإبداعية في الموضوعات والأساليب (بحوث ومؤلفات وجوائز)، وأن يرقى بمحليته إلى درجة تصل بها إلى النموذج الأصيل (اللامحدودية).
ومن ضمن المعايير التي يحددها معتصم أيضاً، لكي يتسم العمل الروائي بالعالمية، أن تكون مؤلفات صاحبها إنسانيةً يجد فيها القارئ، أياً كان، ذاته أو جزءاً منها، أي أن تكون قضاياه نفسية واجتماعية، وأن تتضمَّن الرواية موقفاً شخصياً وإنسانياً من الحياة ومن العصر وقضاياه (الانخراط)، وأن تعالج قضية فكرية أو ظاهرة إبداعية وثقافية في طور التشكّل، وأن تقدِّم أخيراً اقتراحات خلاقة يكون مؤلفها سبّاقاً إليها (الابتكار والخلق).
الروائي الراحل إلياس فركوح: العالمية لا تقاس بالترجمة
ويؤكد معتصم على أن “الرواية العالمية”، قبل هذا كله، ليست مفهوماً إجرائياً، بل توصيف نقدي لظاهرة، وهي مشتقة من لفظة “عالَم”، أي روايات من دول مختلفة ولغات متنوِّعة متعدِّدة. والغاية من هذا الاختلاف والتنوُّع والتعدُّد الوقوف على التقاطعات المفصلية التي تشترك فيها كل الروايات”. ومن جهة أخرى يقف الدارس على التنوع الغنيّ بين الصيغ الخطابية، مما يدل على قدرة الإنسان المبدع الخلاقة.
ونتبين، من التحليل الذي يقدِّمه الناقد لعدد من الروايات العالمية، أنها تشترك جميعاً في ما أطلق عليه «المتخيّل»، وهو، حسب تعريفه، الخلفية التي ينسج عليها الكاتب، ويروي السارد الأحداث والوقائع وعلاقات الشخصيات الروائية أو الشخوص الواقعية التي تدور حولها الحبكة، ويتحدّد وفقها فضاء العمل، أي زمانه ومكانه. وبواسطة هذا “المتخيل” يمكن تأويل الرواية ككل، وقراءة مكوناتها الداخلية ومقاصد كاتبها.
ويشير الناقد إلى أنه لكي تكتسب الرواية القدرة على الاستمرار، وتخترق حدود الإطار المحلي الذي أنتجت فيه، وتنتقل إلى رحاب العالمية، فإنها تحتاج إلى “خلق متخيّل مشترك بين مختلف الثقافات والشعوب والأزمنة والحقب التاريخية”. وثمة أربعة أنواع من هذا المتخيّل المشترك هي (المتخيل التاريخي، المتخيل الديني والعقدي، المتخيل الأدبي، والمتخيل الذاتي)، بالتطبيق على عدد من الروايات التي ينطبق عليها وصف “العالمية”، كما تم تحديده في الكتاب، مثل رواية “دميان، قصة شباب إيميل سنكلير” لهرمان هيسه، “القلعة البيضاء” لأورهان باموق، “السراب” و”ميرامار” لنجيب محفوظ، “بالزاك والخياطة الصينية الصغيرة” للكاتب الفرنسي، ذي الأصل الصيني داي سيجي، “قايين” لساراماغو، “القديس فرانسيس” لكازانتزاكي، “الخصم” للكاتب الجنوب أفريقي كويتزي، “ذاكرة غانياتي الحزينات” لماركيز، “الوليمة المتنقلة” لهيمنغواي، “أفواه واسعة” لمحمد زفزاف، “فوضى المشاعر” لستيفان زفايغ، “مستوطنة العقاب” لكافكا “فيرونيكا تقرر أن تموت” لباولو كويلو، و”صباح الخير أيها الحزن” لفرنسواز ساغان.
إن ما يجمع بين الخطاب الروائي والخطاب التاريخي هو “القصة”، كأحداث ووقائع متسلسلة مشوقة وحاسمة. ورغم العلاقة الملتبسة بينهما وقف معتصم على أشكال مختلفة لحضور “المتخيّل التاريخي” في كتابة الرواية، منها: التاريخ كفضاء، التاريخ والمعنى، التاريخ والفكرة الشعرية، التاريخ والسرد، والتاريخ وكتابة الذات. وضمن سرد المتخيل الديني والعقدي حلل روايات تقوم على محكيات متعلقة بالأديان السماوية الثلاثة المعروفة، وتعاليم الأديان الوضعية المنتشرة في عدد من دول آسيا خاصةً، ومن ضمنها العادات والتقاليد التي تحولت بفعل الزمان، وبقوة التحكم في سلوك المجتمع وأفراده إلى معتقد يشكّل جزءاً مهماً من الهوية التاريخية والثقافية والدينية لفرد من الأفراد أو جماعة أو مجتمع. وميز الناقد بين مظهرين من مظاهر الكتابة عن المتخيل الديني والعقدي أدبياً وروائياً، الأول تُعدّ فيه الأديان مجرد محكيات متوارثة لا قيمة لها من حيث القدسية والحصانة والحرمة، والثاني يمثله الموقف الإلزامي الذي يعُدّ الدين ركناً من أركان الهوية الوطنية، كما هي الحال في البلاد الإسلامية التي تنص دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة.
وذهب الناقد، في محور “الرواية والوعي بالذات والمتخيّل العقدي”، إلى أن ثمة كتّاباً يمتلكون قوة ملاحظة لحظة التحول الكبرى في مجتمعاتهم، وتأتي أعمالهم كنبوءة غير مؤكدة، لكنها تحمل في طيّاتها حدوساً وهواجس، فرديةً وجماعيةً، ملتقطة من استقراء الحياة الخصبة، ورصد أحوال الحياة العام.
وخصص محور “الرواية وإعادة الكتابة” للكتّاب الذين اختاروا إعادة صياغة الروايات والقصص والخرافات والأساطير انطلاقاً من مبدأ تغيير مصائر بعض الشخصيات، أو تغيير الحلول النهائية، وقد حولت هذه العملية تلك الأعمال من تخييل إلى فضاء للتخييل والإبداع المضاعف، كما في رواية الخصم” لكويتزي، التي أعاد فيها صياغة كائنات رواية «روبنسون كروزو» لدانيال ديفو.
*عن مجلة الجديد