الرجل الذي قرر أن يصبح كاتباً
شكيب كاظم
وأنا أقرأ كتاب ( سَمِّها… تجربة Call it experience) مذكرات الروائي الأمريكي الشهير (إرسكين كالدويل Erskin Cald Well) (1903-1987) ترجمها الشاعر والمترجم علي الحلي – رحمه الله- وراجع النص المترجم الدكتور عبد الستار جواد، الطاقة الإبداعية الجميلة، والذي غادرنا للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية بُعَيْدَ 2003، والذي استقرأت أنه كان يدون مذكراته اليومية، إذ تجد فيها الدقة، مما قد لا يتوافر للذاكرة الإنسانية النساءة، وأنا أقرأ، جولاته في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، كي يستزيد من تجارب الحياة، ويكتب، حتى أنه بعد أن جاب أمريكاً كلها، وذهب إلى المكسيك قرر زيارة الاتحاد السوفياتي، والحرب العالمية الثانية مشتعلة الأوار، حتى أن السفير السوفياتي في واشنطن يحذره من الذهاب إلى هناك، فلعله يجد نفسه فجأة أسيراً في يد القوات الألمانية، لكنه على الرغم من هذا التحذير المسؤول، فأنه يقرر السفر، مع زوجته (مارغريت بورك وايت) التي كانت مصورة فتوغرافية لعديد كتبه التي استقصى فيها الحياة في البلاد الأمريكية، ثم عقد الحب آصرته بينهما وتزوجها، ويصل إلى موسكو بعد رحلة مضنية وتبديل اكثر من طائرة جابت أراضي الصين ومنغوليا وهناك يستقبل بكل حفاوة واحترام.
وأنا أقرأ جولات كالدويل في أنحاء الدنيا كي يعيش ويكتب، استذكرت الروائي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2008، جان ماري غوستاف لوكليزيو (صحراء)، الذي قرأت روايته (صحراء) وكتبت عنها حديثاً نقدياً عنوانه (الروائي متماهياً مع آرائه وتجاربه، لوكليزيو درس الحضارات القديمة والأراضي البكر فانتج رائعته (صحراء) تراجع ص 129 من كتابي (السرد في مشغل النقد) فقد زار الصحراء المغربية وعايش سكانها واحب امرأة من نسائها وتزوج منها، وكتب روايته (صحراء) وما اكتفى بذلك، بل ذهب نحو المكسيك لاستقراء حضارة (المايا) المنقرضة، وهو ما لا يتوفر للروائيين العرب والعراقيين تحديداً، المنشغلين بلقمة الحياة، وعدم منحهم أجور إبداعهم بل أن دور النشر تطالبهم بالمال كي تنشر ما يكتبون!
كالدويل، الذي أبدع (طريق التبغ) التي حولت إلى مسرحية ظلت تعرض في مسارح برودواي سبع سنوات ونصف، ودرت عليه من المال، ما جعله يحيا حياة مرفهة، فضلاً عن (بيت في المرتفعات) و(ارض الله الصغيرة) وغيرها من الروائع الخوالد التي قرأناها مترجمة، يعترف انه يقرأ قليلاً.
مجتمعات تحترم مبدعيها
فجواباً عن سؤال وجهه إليه أحد القراء، وهناك المجتمع الذي يحترم النجومية، إذ كان يتسلم ألوف الرسائل، الأمر الذي دفعه للاستعانة بسكرتيرة كي تجيب الرسائل، فضلاً عن تبويب مقابلاته وأموره المالية، يسأله أحد القراء أية كتب تقرأها؟
يجيبه: أقرأ كتباً قليلة، ربما ست روايات في السنة، ومنذ سنوات طويلة مضت، قسمت الناس إلى صنفين: أولئك الذين يقرأون، وأولئك الذين يكتبون أما أنا، فقد رغبت في أن الحق بالفئة الأخيرة. تراجع ص 316
إنه يقول الحقيقة، من غير مبالغة وكذب، جوابه هذا يعيد لذاكرتي، جواب صديق شاعر، سألته عما قرأ في عطلة نهاية العام الدراسي، يوم كنا طلابا في كلية الآداب، فسرد عليَّ من أسماء الكتب مما لا يُقرأ بدهر، وليس بشهرين! وهو الآن شاعر نجم.
تقرأ في هذا الكتاب السيري المهم، الذي أحسن الأستاذ علي الحلي، صنعاً إذ نقله للعربية، فنجد هذا الشغف بالكتابة، التي ما كان شيء يُعلى عليها لديه وظل يطرق أبواب دور النشر والصحف والمجلات، ويعترف ارسكين كالدويل، أن العديد من كتبه ما وافق الناشرون على طبعها، فضلاً عن الكثير من مقالاته وقصصه، كانت تعاد إليه فيضطر إلى أرسالها إلى مجلات أخر.
يجد عملاً في إحدى الصحف، يتولى عرض الكتب والتعريف بها، وإذ يطالب باجر عمله هذا يأتيه الجواب، من كوراهاريس المحررة بصفحة يوم الأحد للكتب في جريدة (شارلوت اوبزرفر) أنها لا تستطيع أن تدفع … مقابل المراجعات، لكنها أضافت على أية حالة تستطيع أن تحتفظ بالكتب نفسها!
لقد كان يسدد نفقات عيشه من خلال بيع هذه الكتب التي ترسلها له الجريدة بعد أن يفرغ من كتابة عرض لها، لقد كانت الكتب تتكدس في غرفته، ويعلن مازحاً لعلي أول من ابتكر هذا السعر الزهيد، كنت أبيع الكتاب بربع دولار!
لا بل أن رئيس تحرير صحيفة، بعد أن أمضى فيها سبعة أسابيع من العمل، وقد سأله عن أجوره، نظر إليه باستغراب قائلاً:
– ما كنت لتتوقع مني أن أدفع لك نقوداً مقابل تعلم العمل (…) لا أنك نسيت يا ارسكين، بأنك أتيت إلى هنا بمحض إرادتك الحرة (…) لم تكن هناك كلمة واحدة قيلت عن الدفع لك مقابل تعلم الصحافة!
إصرار على أن يصبح كاتباً
هذا الذي يواجه كل هذه المعوقات والمثبطات، المادية والمعنوية، حتى أن صاحبة أحد الدور، التي يستأجر غرفة منها، وهو الذي يمضي ليله، يكتب بالآلة الكاتبة تطالبه بمغادرة الدار، لأن صوت الطابعة ليلاً يزعج الساكنين، لكن الإخلاص للكتابة، ذلل كل الصعوبات، وفتح أمامه أبواب المجد والمال والشهرة، ومن ثم الخلود.
تقرأ في الكتاب هذا، فما تجد ارسكين كالدويل يتحدث سوى عن عوالم الكتابة والنشر، وكأن الدنيا عنده لا تساوي شيئاً من غير التأليف والكتابة، لقد كان هدفي الأول في الحياة، وما يزال كما يؤكد كالدويل ذلك أن أصبح كاتباً حقاً وإذا قدر لي الوصول إليه فسأشعر بالثقة…. تراجع ص 105
هذا الذي كتب عروض الكتب في الجرائد مجاناً، ورفض رئيس تحرير الجريدة التي عمل بها وقتا، أن يدفع له سنتاً واحداً، وكان فرحاً جداً إذ يعرض عليه ناشر، لقاء نشر قصتين له في مجلته يسأله الناشر:
-أيناسبك اثنان ونصف لكلتا القصتين؟
لكن كالدويل وقد أجابه بضآلة هذا المبلغ، يزيده الناشر إلى ثلاثة ونصف فما كان من كالدويل إلا الموافقة على مضض، ظاناً أن الأمر سيكون مقبولاً، لقد فكرت بأنني سأحصل على مبلغ أكثر من ثلاثة دولارات وخمسين سنتاً، بالنسبة للقصتين معاً.
فما كان من الناشر إلا أن يجيبه؟
– ثلاثة دولارات ونصف الدولار؟ أوه كلا … لابد إنني أعطيتك انطباعاً خاطئا ياكالدويل (….) لقد قصدت ثلاث مئة وخمسين دولاراً. تراجع ص 124.
كذلك ارسكين كالدويل هذا الذي اخلص للكتابة، وكانت هذه بداياته، أمسى يستكتبه الناشرون وأصحاب المجلات والصحف، ويطلبون منه المزيد من الروايات والقصص، وتعاقدت معه اضخم شركات إنتاج الأفلام، مثل: مترو كولدين ماير، ووارنر برذرز ، كي تنتج رواية من رواياته، وتجري اشهر صحف أمريكا والعالم، واعني جريدة (نيويورك هيرالد تربيون) مقابلة صحفية معه، وامسى أجره عن عرض روايته ( التبغ) مسرحياً، الفين وخمس مئة دولار إسبوعياً، واضعين في الحسبان أن هذا حصل بداية ثلاثينات القرن العشرين ورخص الأسعار، ووصل إلى ثلاثة آلاف دولار أسبوعياً.
على الرغم من شغفي بالسينما، ولاسيما أيام الشباب الذي توارى سراعاً، لكن ظللت لا ارغب في مشاهدة الأفلام، المأخوذة من الروايات، وكثيراً ما قرأت شكوى عديد الروائيين، ولاسيما نجيب محفوظ، من إنتاج رواياته سينمائياً، فالمنتج والمخرج محكومان بظروف الإنتاج، ورغبة المشاهدين، يحاولان ليّ النص الروائي، ولقد لمست شكوى كالدويل من تحويل رواياته أفلاماً إذ أن القصة غُيرت مرات عدة، سواء من قبل هوليوود ام محلياً (…) قال لي هوارد بألا أقلق (…) وافقت على ذلك، إنها بعيدة تماماً ومختلفة (….) ولذلك كنت مرتبكاً إلى حد ما… تراجع ص 190
مرة سألني صديق، هل لك أن تعلمني كيف أكتب؟ فأجبته وهل أنا أعرف كيف اكتب كي أعلمك الكتابة؟ ولقد رأيت رأيي هذا متناغماً مع رأي الروائي ارسكين كالدويل الذي يجيب عن سؤال كيف تكتب؟
– بعد كل هذه السنوات ما زلت أجهل كيف أجيب؟ (….) ويظن اغلبهم بأنني أبقيه سراً في نفسي (…) إن أفضل طريقة لتعلم الكتابة … هي الكتابة!