نزار عثمان
مسيرة طويلة قطعها الفنان السوري صفوان داحول، حاملا حلمه، متنقلا بين عواصم عربية عدة، حطّت رحالها أخيرا في غاليري أيام – بيروت، في معرض يستمر لغاية 25 أكتوبر/تشرين الأول، اختار لها عنوان «ما زلت أحلم». رحلة حلمية وضّاءة يأخذنا فيها الفنان من خلال لوحاته، التي يغلب عليها الطابع المونوكرومي، فتجليات الحضور بالوجوه ذات الطابع الفرعوني الناعسة، وحركات الأصابع، وانسباق تقاطعات الجسد وانسيابه بشكل متناسق تدفعنا إلى إغلاق عيوننا للبحث عما أراده الفنان أمام كل لوحة، لنصبح شركاء له في نتاجه، بحثا عن رغبته بدفعنا إلى الحلم أيضا، والتلميح لا التصريح، أن الوله والطمأنينة المتمازجة مع القلق هي في دواخلنا، وقد رفع داحول عنها الحجاب والستار عبر تمثيله إياها بلوحات أشبه بالمرآة التي تعكس اشتباك الشعور في ذواتنا، وتترك محلا لارتياد الضوء بساطا ينقلنا إلى عالم من السحر والجمال.
لعل أكثر ما يلفت، بداية، في أعمال داحول هو الموهبة الفذة التي تقاطع فيها الشغف بالرسم والتمكّن منه، مع الباع الهندسي الملفت، ذلك أن الفنان له من الاستطاعة أن يصور نفس الشكل مرات عدة بنفس المقاييس والأبعاد، مع اختلاف غير جذري في الشكل ومنحصر، في الغالب، في الفكرة والمؤدى من وراء اللوحة، ترسم لها وحدة جامعة لذاتها عن مثيلاتها، ولا تترك مظنة الملل، وكأنه يستلهم النظرية الفلسفية الذاهبة إلى أن الكثرة هي عين الوحدة. فالأعمال ذات القياس الموحد، والتي تجسد الأنثى بنفس الوضعية والهيئة، مع اختلاف في مفردات تنزع باتجاه استقلالية كل عمل من هذه الأعمال، وتحدد هويته وجوهره في مندوحة من التحرر من ربقة التكرار. فمحل الاختلاف منحصر، في الغالب، في مكانين أرادهما الفنان، وهما العينان والصدر، في تزخيم واضح لمكامن الشعور وانعكاسه في الذات ومحله ومركزيته فيما ذكرنا من أمكنة، فمن الشق بالصدر، إلى علامة السلام، إلى ورقة اللعب، إلى ما يشبه رذاذ المطر المتساقط بطريقة هندسية نوعا ما قاسية، أو ربما الخطوط المتجهة باتجاه واحد، إلى غير ذلك، المتصاحبة مع إغماض العينين أو فتحهما أو حركة الرموش المضاءة بالأبيض أو القاتمة… وكلها في مواجهة الرائي، الشريك في العمل، فلوحته لا تكتمل إلا من خلال المشاهدة. وهنا العبرة في الفن التشكيلي، ذلك أنه لا يتم اكتمال اللوحة إلا من خلال المشاهدة، فالهدف منها هو المتلقي، وكان اختيار داحول أن يواجه المتلقي بحالتين، الأولى أن تتوجه الأنثى باللوحة إليه مباشرة من دون مواربة، والثانية أن ينعكس من خلالها انتباه المتلقي من خلال اللوحة في تفاعل مقصود، ومحاكاة بصرية، ولغة لونية لا تقتصر على إبداع الجمال، بل تدعو أيضا للتفكر والتمعن في المقاصد المختلفة والمتنوعة الرمزية في كل لوحة، وكأنها أفخاخ مزروعة في أعماقها تحاكي بواطن الشعور لدينا كمشاهدين.
لا يتنكّر الفنان لحنينه تجاه الوطن والمرأة، ويكثف في نتاجه المعنى من وراء الفن، ويؤكد على الرسالة من ورائه، إنما بأسلوب غير مباشر، وربط خفي عمن لم يمتلك باصرة قوية، وقدرة على فك الشيفرات الموزعة بكثافة في لوحاته، فالقلق البادي بوجوه مفرداته يشي بحالة من الغربة والنوى والحنين، فكائناته تنشد خلاصا من وراء تقوقعها وانحناءاتها وخجلها وبروزها ونظراتها المثقلة بالشغف. أما القلق الذي يعلو محياها، والتردد الذي يتمحور في أفقها، فمردهما في الغالب إلى حالة استبطانية اعتصرت الألم حبا، والبعد رغبة بلقاء قريب.
قد يأخذ بعضهم على الفنان أن الانفعال والحركية بعيدان نوعا ما عن أعماله التي تتبلور بحالة من الانسكاب والصقل والتجلي في خانة من المكث والسكينة، غير أن القدرة على بلورة تلك الأجساد والوجوه بتناغمها يبعد فقط العبثية والعنف عن أعماله، ولا تنفي الانفعال، بل تؤطره وتقولبه بغلاف من الخفر والانبثاق باتجاه مواءمة ضربات الريشة مع الهيئة العامة والبنية المؤسسة لكيان اللوحة، في تعبيرية متمكنة تلبي نداء صاحبها في عكس حالة من الحلم، وطبعها في الآخر / المتلقي والشاهد الشريك. أما الحركية فهي حاضرة بترجمة اللون إلى لغة تواصل من خلال العيون والمفردات المنتقاة بعناية، تمحور حالة من الشغف والترميز في كل لوحة على حدة.
* ضفة ثانية