تغريد عبد العال
في لوحات شوقي يوسف المعروضة في غاليري «أجيال» (بيروت) حوار عميق بين الجسد واللون والمادة، يذوب الجسد وينصهر مع المادة كأنه جزء منها. نشعر ونحن نقرأ اللوحات أن شيئا ما مفقودا ويقودنا إلى التساؤل والحفر داخل اللوحة، حتى نجد بقايا الجسد وكأنها هناك لتشاركنا اللوحة بتفاصيلها وأسئلتها، فربما هي دعوة عامة للبحث عن الأشخاص من خلال بقاياهم، ومن خلال أجزائهم الحية العالقة في اللون.
«يتقارب أسلوب الفنان مع أعمال فرانسيس بيكون، فالجسد هو الثيمة الأساس»
في إحدى لوحات الفنان التجريدية وغير المعنونة، تظهر الطاولات وكأنها أجساد أخرى للوجود، أجساد تتراءى كأنها كائنات مجهولة يقدمها لنا الفنان على طبق كبير، نتأمله ونحن نفكر بالوجود وكأنه وليمة كبرى. بعض الطاولات تظهر وكأنها مقلوبة، أو كأن هناك مرآة ترينا الأشياء وهي معكوسة وهذا ينبهنا أن الوجود مجرد مرآة. في لوحة أخرى، تحتل المادة جزءا كبيرا من اللوحة، وكأنها مركز الكون، يدعونا ذلك للبحث عن بقايا الجسد، ويأتي اللون ليذكرنا بأن المادة تتحدث وهناك حوارية مع الروح أو الجسد، والموت هو الثابت الوحيد، حيث الملقى على الطاولة هو ذاك الجسد الذي ينتهي إلى المادة.
في لوحة ما يرسم شوقي يوسف كرسيا كبيرا، تظهر الألوان فيه وكأنها الطبيعة والسهول وهنا نتخيل أن الحياة مجرد مكان مؤقت للجلوس، والطبيعة هي المكان المؤقت لنا. يظهر الضوء بين الزوايا وكأنه شاهد على ذلك الوجود الآني في هذا العالم. تتناغم بعض الألوان مع بعضها كي تقول شيئا جديدا، بعضها يبرز فجأة وكأنها تريد أن تلمح لوجود ما داخلها، وجود يحضن الجسد ويحضن المادة معا.
يترك الفنان مساحات واسعة من تجانس الألوان وكأنها دعوة لتأمل الصمت وتأمل الكون الواسع الذي يحضن أجسادنا، فلا تخلو لوحة من ذلك التجانس الغريب في كل زاوية منها.
في إحدى اللوحات يستلقي الجسد على طاولة في الوسط، ويسيطر اللون الأصفر على المشهد، بينما تبقى الخلفية صامتة وكأنها تنبهنا أن العالم من حولنا يشهد على هذا العذاب وأن الألم الذي تشاركنا به المادة هو مركز هذا العالم.
يتقارب أسلوب الفنان مع أعمال فرانسيس بيكون، فالجسد هو الثيمة الأساس في هذه الأعمال، حيث التجلي في كامل عبثه وتعبه وعذابه، ولكن المختلف في أعمال شوقي يوسف هو تلك التجريدية في جعل الجسد حالة تشبه اللون أحيانا وتشبه صرخة عارية في البرية.
نشعر بالقلق أحيانا ونحن ننظر إلى هذه الأعمال، وكأن اللوحة تقصد أن تحرك شيئا ما بداخلنا، حيث يخرج اللون بصخب فجأة في إحدى زوايا اللوحة أو في مكان ما، ونشعر وكأن هالة ما تحيط بالأشياء، ربما هي روح المكان التي تحضن المادة بشكلها الوحيد الذي يرسمه الفنان: الطاولة أو الكرسي.
إنها المادة نفسها التي تشكل الجسد والأشياء، يقول الفنان بلغة أخرى، إنها نفسها التي تنصهر وتكوّن كلّ شيء، وما هذه الحوارية التي تجمع بين الأشياء التي حولنا إلا لغة ما، علينا أحيانا أن نفككها ونفهمها ونعيد اكتشافها، لكي ننطلق لفهم جديد لكل شيء حولنا. وهكذا يؤسس الفنان للغة جديدة، يجعل اللون ينساب بين الأشياء ليدلنا إلى مواطن الصمت والصخب والانصهار الكامل مع المادة: مركز الكون.
*ضفة ثانية