وباء داعش والمصل المضاد

جمال جصاني

منذ ان تفجرت دمامل الازمة السورية والحالة الاقليمية تستقبل غير القليل من الظواهر والتقيحات السياسية والعقائدية، زادها تعقداً وهمجية؛ الانحطاط الفكري والقيمي والمعرفي السائد، والمال الريعي السائب المتدفق لتلك المضارب الساخنة.

من رحم مختبرات التخصيب الشاذة تلك ولد التنظيم التلفيقي العابر للتضاريس والحدود الجغرافية؛ الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش). وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة بين اطراف النزاع المحلي والاقليمي والدولي، حول نوع القوى والدول والمصالح التي تقف خلف مثل هذه الانبثاقات السريعة والخاطفة، فان ما حصل مؤخراً في محافظة الموصل عندما سقطت من دون مقاومة وهي المنطقة المعروفة بتقاليدها ومدنيتها العريقة، بيد مخلوقات منحدرة لها من مغارة (من اشتدت على الناس وطأته وجبت طاعته)، وغير ذلك من تعاويذ فقدت صلاحيتها منذ المغفور له كوبرنيكوس، يجبرنا قبل فوات الأوان على التوقف ومراجعة ما حدث منذ لحظة تلقف شحاطات اطفال بغداد لرأس الصنم في ساحة الفردوس، الى غزوة الرفاق المجاهدين وفتحهم المبين في الموصل.

في البدء لابد من التذكير بحقيقة لا يطيقها غير القليل من زعماء الصدفة التاريخية، ان أمر سقوط اعتى دكتاتوريات المنطقة واكثرها همجية وانحطاطاً (جمهورية الخوف) عبر الغوث الاممي العابر للمحيطات لم يكن غريباً أو محض صدفة عابرة، بل هو نتاج للعجز العضال والاحباط الشديد الذي وصلت اليه معنويات شعوب وقبائل وملل هذا الوطن القديم، بعد سلسلة الهزائم والخيبات السياسية والقيمية التي رافقتهم في ظل السلطة المطلقة لزمرة (المنحرفون) وجرذهم الذي انتشل مذعوراً من جحره الاخير. أربعة عقود نفذت على تضاريسهم الجغرافية والقيمية أبشع التجارب، هرست بلا رحمة بوصلة العقل والوجدان عند غير القليل منهم. كما لم يكن أمر صعود جماعات وتيارات «الهويات القاتلة» الى مسرح الاحداث وتلقفها لمقاليد الامور بعد «التغيير» مفاجئاً، فلكل فعل رد فعل كما تقول العلوم التجريبية.

وها نحن اليوم بعد أكثر من عقد من سقوط النظام الشمولي السابق، نجد انفسنا بمواجهة جولات جديدة من الحروب والحرائق ونهش بعضنا البعض. ومع مثل هذه المناخات وشروط الاحتقان المدفوعة الثمن، كان طبيعياً ان تتقيأ الصناديق في دوراتها المختلفة (المحلية والبرلمانية) ذات الكتل والشخصيات الأكثر صخباً وضجيجاً في حقول التشدد والتطرف والتشرذم.

الدولة الغائبة

عندما ابتلت «ام الدنيا» مصر بالرئيس المؤمن والذي فطس لاحقاً بـ»الرصاص الأشد ايماناً» محمد انور السادات ظهر الى الوجود كراس للنسخ الجديدة من السلالات التكفيرية عنوانه (الفريضة الغائبة) أي الجهاد، والذي رد عليه المفكر الشجاع فرج فوده بـ(الحقيقة الغائبة)، حيث لم يتأخر رصاص الظلاميين طويلاً، بوصفه وسيلتهم المجربة في تجسيد قيم الجدال والحوار مع ذلك الابن البار للامة التي ادركت بعد ربع قرن، ما حذر منه في انتفاضتها الاخيرة ضد حكم الجماعة والمرشد.

إن التجارب المريرة التي عاشتها المنطقة، خاصة من ابتلي منها بالفواتير الباهضة كالعراق وسوريا في العقود الاخيرة، تؤكد حقيقة ان الغائب الفعلي هو الدولة بمعناها الحديث، الذي ارتقت له الامم والمجتمعات التي وصلت لسن التكليف الحضاري، لا تلك المثقلة بسراب الهذيانات والهلوسات المنقرضة. الدولة لا كما تستقر بمخيلة المخلوقات الداعشية المدججة بكل اشكال ابداعات ومبتكرات الاشقاء النيجيريين في مجال (البوكو حرام)، بل تلك التي يعرف خدماتها الاجتماعية والانسانية جيداً كل من قذفته الاقدار الى غواية فسطاطهم البوكوي. 

البعض ما زال مسكوناً بأحلام الغنائم وملحقاتها من الاسلاب والفرهود، لذلك يتعسر عليه هضم حقيقة ان الدولة كمفهوم ونظام لم يعد أمرها كما كان أيام الرعية والسلطان. هؤلاء الذين هبطوا بعد الفتح الديمقراطي المبين على تضاريس المنطقة الخضراء، لم يتريثوا قليلاً كي يفكوا طلاسم كل هذه الكثبان والشحنات التي تراكمت على هذا المفهوم (الدولة) والذي كرس له «هيغل» وغير القليل من فلاسفة عصور ما بعد كوبرنيكوس غير القليل من المؤلفات والمدونات لسبر اغواره الجديدة. ونحن نتابع مشهد التلاشي الجمعي لفقاعات المؤسسات العسكرية والامنية للنظام الذي يفترض ان يكون جديداً وديمقراطياً مقابل مسلحي تنظيم داعش في الموصل وعدد من مدن وقصبات العراق، نشعر بالمرارة والالم على هذا المستوى من الانحطاط وانعدام المسؤولية والحياء تجاه كل هذه الفضائح المدوية، مثل هذه الفجائع والتي يحاول البعض من «عدائي» حقبة الفتح المبين تمريرها كباقي السلسلة من الهزائم التي سبقتها، وسط صخب وضجيج الاهازيج المنحدرة الينا من جوف الانشودة الشهيرة (فوت بيه و..)، يعني ان القوم قد ولجوا الى ما اشار اليه أحد الروائيين الكبار عندما قال: (عش مع الخزي والعار مدة طويلة، يصبح مألوفاً ويبدو كجزء من الآثاث..). ان الدولة كمنظومة متكاملة من المفاهيم والقيم والحقوق والسلطات تحدد موقع الامم والمجتمعات في سلم التطور الحضاري، وما نشاهده في مضاربنا من فشل وعجز في هذا المجال الحيوي يعكس بؤس الامكانات والاستعدادات التي نستعين بها لبناء الدولة وملحقاتها العضوية من رؤى وبنى وتشريعات تنسجم وحاجات الحياة الحديثة.

الوباء

إن انتشار نفوذ هذا الوباء (داعش) وتضاعف قدراته المادية والمعنوية، يؤكد ما اشرنا اليه مراراً، حيث سلم الاولويات المقلوب في هذه المضارب التي هجرت دروب العمل والعلم والانتاج الى حيث الولائم المفتوحة للرزق الريعي وحشود قوارضه الوافدة من مختلف الرطانات والازياء. ومن يتصفح قليلاً في العلف الذي يجتره الداعشيون، لن يجد صعوبة في اكتشاف الجذور القيمية المشتركة لهم مع ثوابت فلول النظام المباد وباقي قوافل الهمجية والتخلف، والتي تعد من حاولت شرائع الارض والسماء تكريمه (الانسان) بمثابة تابع ذليل للمنظومة الداعشية وان لم ينتم..!

لقد اسقطت غزوة داعش الاخيرة لا المحافظة الثانية في العراق وحسب، بل اقنعة حشد هائل من المؤسسات والافراد والجماعات، تلك التي عدت ما حدث بوصفه تحريراً وثورة وغير ذلك من مفردات محرمة في قواميسهم الصدئة. كما ساعدت والحق يقال على تفكيك دائرة اللبس والغموض التي رافقت لحظة التغيير منذ 9/4/2003 الى يومنا هذا، حيث كشفت عن الحاجة الى التغيير الحقيقي والقوى النوعية القادرة على مواجهة مثل هذا الوباء. ان حالة الركود والعجز والفساد المستشرية، هي المناخات المناسبة لظهور مثل هذه الاوبئة والجماعات المتخلفة، وهي تمثل الوجه الآخر لقوارض المنعطفات التاريخية التي امتطت سنام فرص التغيير لتلقف اسلاب الغنيمة الازلية. 

من دون شك لن يكون بمقدورنا النجاة من جوف هذه الحلقة القاتلة، والمتخمة بثوابت (الكر والفر) ونهش بعضنا البعض، تسديداً لفواتير الثارات المنقرضة، الا عبر الوسائل المجربة والهمة والوعي التي ساعدت باقي سلالات بني آدم على فك الاشتباكات المحلية منها أو الخارجية. وهذه المهمة العسيرة تحتاج الى متطوعين غير مثقلين بالاحقاد والثارات السالفة، ولا تتبوأ صدارة اهتماماتهم المناصب والعقود والامتيازات وارتال الحمايات.. بل مكافحين حقيقيين يضعون نصب اعينهم امن وطنهم واستقراره وكرامة شعبهم. ومثل هؤلاء يتميزون عن ضدهم النوعي ومواهبه وخفته في التملق ونقل عدته من كتف لآخر، بكونهم لا يهرولون خلف الولائم والغنائم، بل تجدهم حيث حاجة الوطن والناس لهم وقت الشدة والمحن.

الدمقرطة هي الحل

لم يعد خافياً على أحد، حقيقة ان الاحداث الاخيرة في الموصل، قد اطاحت بآخر المساحيق عن الملامح والغايات الفعلية لغير القليل من الزعامات والجماعات، والتي صخبت كثيراً خلف يافطات التغيير والديمقراطية وحق الشعوب بتقرير المصير وغير ذلك من سلع ومفردات الحداثة. لقد سقطت آخر الاقنعة والادعاءات الزائفة، بعد ان شاهدنا جميعاً انفراج اساريرهم وسعادتهم العارمة لما حصل للقوات الحكومية، مواقف لا تمت بصلة لا لقيم الديمقراطية والتحرر ولا لما هو متعارف عليه من سنن واعراف بين العشائر والقبائل. 

ان المواجهة الحقيقية بين المدافعين عن الوطن وتجربته الديمقراطية الفتية وقوافل الغزاة الجدد المنحدرين لمضاربنا من متاحف المنقرضات، لم تبدأ بعد، وما الهزائم الاخيرة التي الحقتها تلك المؤمياءات بالقوات الحكومية في الموصل، الا دليل قاطع على ان تلك المنازلة لم تكن سوى فضيحة لتبادل المواقع بين نوعين من قوارض المنعطفات التاريخية لا يمتان بصلة لكل ما له علاقة بمنظومة الحريات والديمقراطية وشرعة حقوق الانسان.

لقد حسمت البشرية ومنذ ان وضعت آخر واقسى حرب كونية اوزارها (الحرب العالمية الثانية) أمر الصراعات والنزاعات لصالح النظم الديمقراطية وجنرالاتها المدججين بفكر الحداثة والحقوق والحريات. لقد وضعت البشرية وتجارب الامم التي وصلت لسن التكليف الحضاري ارث الشموليات الفاشية والنازية وغيرها من التجارب العنصرية والشوفينية في المحجر الذي يليق بها. مثل هذه الدروس والمعطيات هي ما نحتاج اليه في عتمة المشهد الراهن وتحدياته المصيرية، حيث تتداخل وتشتبك الرايات والمصالح والخطابات والمواقف العابرة. ومن يتصفح قليلاً في تجربة اغتيال مشروع الجمهورية الاولى شباط عام 1963 يدرك كيف تحول الجفاف الديمقراطي وتورم الخطاب الشوفيني لبعض الشركاء والقرارات الفردية ومنهج الغطرسة الى كعب أخيل لذلك المشروع الوطني، عندما تسلل (المنحرفون) من الرحم الملوث لعروس ثوراتهم، الى حيث هيئة الاركان وجنرالها الاوحد، لتشرع ابواب الوطن القديم أمام سلسلة من الكوابيس لم تنتهي الى يومنا هذا. ان المأزق التاريخي والذي نقف اليوم عند حافاته الحادة، بفعل المواقف والسياسات غير الديمقراطية والبعيدة عن الحكمة والمسؤولية لغير القليل من الاطراف والقوى المشاركة في العملية السياسية، تتطلب اعادة نظر عاجلة وشاملة لكل تلك السياسات والقرارات والممارسات التي اوصلتنا الى هذه السيناريوهات الكارثية، والتي لن ينجو من حرائقها وشظاياها لا المتناهشون الحاليون ولا من تتوهم حذاقته في قضم ما تلفظه مياهها العكرة من اسلاب عابرة. لا سبيل لانتشال مشحوفنا المشترك من خطر الكارثة المحدقة، غير السبيل المجرب لفك الاشتباكات العضال بين سلالات بني آدم، عبر رفع الحجر عن روح الديمقراطية والقرارات والتشريعات التي تؤسس للعراق الديمقراطي الاتحادي الجديد، عراق لا يرفرف على تضاريسه المهددة ساخراً علم النظام المباد ورموزه البالية..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة