سياسة تجاهل الطبيعة

د.عبد اللطيف جمال رشيد

لا تريد بعض الحكومات حول العالم تغيير برامجها السياسية واجنداتها، وهي تمتنع عن الانتباه الى الصدمات والمؤشرات الخطيرة واجراس الانذار المتلاحقة والكوارث اليومية التي ترسلها الطبيعة، لأنها لا تريد خسارة المكاسب الشعبية والمالية التي تحصل عليها نتيجة الابقاء على اجنداتها التقليدية الذي يكون الانشغال بالبيئة الى جوارها مضيعة للوقت، في حسابات الساسة الجشعين المنهمكين بالاستثمارات والحفاظ على مصالحهم التجارية والاميتازات والتجارة غير المشروعة والتسلح دون مراعات الطبييعة وما تخلفه من كوارث خطيرة من اوبئة وامراض وفيضانات وجفاف وحرائق،..بل يفعلون العكس عبر التمسك بمنهج التوسع في الاستهلاك الفردي وفي الاستثمارات العقارية والسياحية والمواصلات وهي كلها اعتداءات على الطبيعة، التي ترد الصاع صاعين للانسان في المجتمعات، التي يتجاهل ما تجنيه يداه وحكوماته عليه وعلى الكوكب باكمله، كما ان الزيادة الكبيرة في السكان والافراط في استخدام موارد الطبيعة بلغت مستويات لا يمكن لكوكبنا مجاراتها.
حتى اذا لم يكن وباء كورونا هو نتاج صناعي متعمد كما تقول الكثير من الاتهامات المتبادلة بين الدول الخاضعة الآن للتحقيق في أصل الفايروس القاتل، فإن الاتهامات كشفت وجود اسراف وتهور في عمليات تصنيع الجراثيم والفايروسات، وانتشار مختبرات التصنيع حول العالم واستسهال التلاعب بالطبيعة، وهذا يعني ان البشر مهددون دائما بانفلات هذه الكائنات المصنعة في حالة حدوث اي خطأ او اي تماد في التجارب.
سياسة التوسع العمراني والسياحي واستغلال المواد الاولية ومد شبكات الطرق، وما يرافقها من شبكات كهرباء وصرف صحي كشفت خلال الحرائق الكارثية في عدة دول (تركيا، استراليا، امريكا، اليونان، قبرص، ايطاليا، لبنان،….) ان الجشع دفع البشر لممارسة اعتداءات هائلة على الطبيعة، حتى لم يعد ثمة مكان يمكن توصيفه كمكان ناء بعيد عن استغلال البشر يبقى رئة نقية للارض بلا اكياس وعبوات بلاستيكية، ولا مخلفات بشرية وصناعية وبلا دخان سيارات الدفع الرباعي ودخان الطائرات، ولا مواد الانشاء الثقيلة التي تحقق احلام الاثرياء بأبنية معلقة في الجبال او في وسط الغابات تخرب الحياة الطبيعية من اجل قضاء وقت قصير بتأثير هوس السياحة او الترف الذي تحول الى مرض يتمثل ببناء بيوت وقصور لا يسكنها احد عمليا لكنها توفر مظاهر خداعة للامتلاك السياحي، وهي عدوى انتقلت سريعا من القلة الثرية الى كل الطبقة الوسطى.
لا تريد الحكومات تعديل اولوياتها وجعل الاهتمام بالبيئة فى مقدمة اجندة اعمالها لأن ذلك يزعج كبار الرأسماليين كما لا يثير اهتمام الناس البسطاء والبيئة ايضا ليست مادة اعلامية مثيرة تسمح لأي سياسي عابر ان يستعرض عضلاته في وسائل الاعلام، لذا لا تركز عليها وسائل اللغو اليومي التي تتحكم بالرأي العام، هذه الوسائل التي تقدم دائما انصاف المتعلمين الذين لا يمتلكون تخصصاً علميا يسمح لهم بالتعمق في اي موضوع لذلك يختارون كل ماهو سطحي وعابر وهذا ما لاينسجم مع الانشغال بالبيئة.
المشاكل البيئية هي اليوم جوهر الازمة المركبة في العالم وفي العراق ايضا، وعندما نقول «مشكلة بيئية» فنحن لا نتحدث عن ترف بل عن دورة كاملة من الازمات، لو اخذنا العراق كمثال، فإن التوسع في انتاج النفط والغاز بدون الاخذ بعين الاعتبار الحيطة والحذر للآثار والكوارث الطبيعية، يعني تراجعا في الغطاء الاخضر وبالتالي ارتفاع في درجات الحرارة وزيادة في الطلب على الكهرباء لاغراض التبريد المنزلي ويعني ايضا زيادة في الحاجة الى المياه واتساع رقعة الصحراء وبالتالي خلل في توفير الغذاء وفي القدرة على توفير مزيد من المساكن النظامية للمواطنين، (نتيجة نقص الكهرباء والماء) وهو ما يؤدي بالتالي الى توسع عشوائي في المساكن ثم المزيد من الاعتداء على الطبيعة وتدمير المزيد من الرقعة الخضراء وانهاء شبكات الري الصغيرة التقليدية التي تروي الاراضي منذ عشرات السنين بسبب القطوعات التي يحدثها البناء العشوائي للمساكن.
الساسة والاعلاميون على السواء لا يحبون مناقشة هذه الحلقة التدميرية كتخصص بل يذهبون بسرعة الى المهاترات ومناهج التحريض والتهييج غير المفيدة عبر توجيه الاتهامات السهلة ذات الخلفيات العنصرية والطائفية لدول الجوار بالمسؤولية عن نقص المياه دون الاهتمام بالقضية البيئية التي تهدد العراق وجيرانه على السواء، في قطاع الكهرباء تكون الوجهة دائما لمزيد من التعاقدات التي تسبب الفساد وبالتالي المنافع للساسة، وكل هذا ينفع اعلاميا اما ملف تدارك المخاطر التي يخلفها التجاوزات المستمرة على البيئية والطبيعة، فلا يريد احد التطر لها والانشغال بها، وكلما اتسع انشغالنا بالجدل السياسي تراجعت مناسيب المياه في الانهر وتصحرت المزيد من الاراضي وتعمقت الازمة.
الاتجاه نحو مواجهة الازمة البيئية يتطلب تغييرا كبيرا في العقل السياسي والثقافة السياسية حول العالم، وكذلك تحولا في الاخلاقيات الفردية وسلوكيات الاستهلاك والانفاق لدى المجتمعات وايقاف الانبهار بالتكنولوجيا وبعروض تجار التجزئة عبر البريد الذين يغرقون المنازل بنفايات الاغلفة ليحاصروا الطبيعة بمنتجات لا تتلف وتستمر بتسميم التربة لعقود من السنين وربما لقرون.
ان البشر بحاجة لجهود كبيرة ووقت طويل لإعادة تنظيم حياتهم وللتوقف عن عملية الاعتداء المستمر على الطبيعة ومحاولة تفهم قوة هذا الكون الرادعة وان تكون هناك حدود لرغبات الاثرياء الذين يظنون ان اموالهم تطلق يدهم في استغلال موارد الطبيعة وتخريبها لتحقيق اهوائهم الشخصية بلا حدود وانهم قادرون على شراء كل ما على الارض والعبث بها في حين يفترض الواقع على الجميع الانسجام مع الطبيعة بدلا من الاستمرار في مواجهتها بتأثير هوس الانسان بالسيطرة والا فإننا نقترب من الكارثة بسرعة جنونية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة