ذكرى رحيل بلند الحيدري.. نسر في المنفى

سليمان بختي

بلند أكرم الحيدري (1926 ـ 1996) واحد من رواد الشعر العراقي والعربي الكبار، لم ينل حقه لسببين: الأول إقامته في المنفى لأكثر من ثلث قرن، بين بيروت ولندن وأثينا. والثاني لأنه لم يمتلئ بالذات الشاعرة، ولم ينافس، ولم يتقصد تبيان حقه ودوره مع الحضور القوي لقصيدته وأشعاره.
ولد الحيدري في مدينة السليمانية في كردستان العراق. ومعنى اسمه بالكردية «العالي»، أو «الطويل»، وكان له من اسمه نصيب. عاش في كنف أسرة ثرية، فأبوه عسكري، وجده كان من شيوخ الإسلام في تركيا. اعتملت في داخله نزعة التمرد على أرستقراطية الأسرة ونظامها العشائري. فانحاز إلى قضايا العمال والفقراء، وانضم إلى صفوف اليسار، ولم يتجاوز الرابعة عشرة. لم يكمل دراسته الثانوية، وانتقل إلى بغداد، وعمل مع صديقه المتمرد، حسين مردان، في إنشاء وتحرير مجلة «الزراعة». وليكمل تمرده على عائلته ونظامها لعشائري الموروث، وضع كرسيًا ومنضدة على باب وزارة العدلية كاتبًا للعرائض (عرضحالجي) في وزارة كان وزيرها خاله داود باشا الحيدري. تعرف إلى الشاعر معروف الرصافي، وطلب منه أن يحفظ شعر المتنبي، ولكنه كان ميالًا إلى شعر أبي العلاء المعرّي. عمل محاسبًا في شركة سباق الخيول، ثم أصبح نائب المدير العام لمعرض بغداد الدولي. وفي الخمسينيات، عمل مديرًا للمركز الثقافي السوفييتي. كان تاريخ ولادته هو العام نفسه الذي ولد فيه الثلاثة الكبار في الشعر العراقي، بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي. وهذا ما جعل الناقد فضل النقيب يقول إنه عام العبقرية العراقية، كما مثلوه بتجسيد رائع للنموذج الشعري العراقي في تنوعه وثقافته وطلاقته.
نشر له طه حسين قصائد مبكرة في «الكاتب المصري»، مع إشارة من المجلة بثورية الشاعر، وتعبيره عن تيار جديد، وكتابة قصيدة مختلفة.
صدر ديوانه الأول «خفقة الطين» عام 1946 ولم يبلغ العشرين. وكان هذا الديوان علامة فارقة ليست في حياة الشاعر وحسب، بل في اعتباره «وثيقة ريادية لرعيل كامل، بل لحركة الحداثة برمتها»، بحسب إبراهيم اليوسف. ربما لم ينل بلند الحيدري شهرة الريادة المستحقة بين زملائه، ولم ينل التكريم الذي يستحقه، ولم ينظر إليه كرائد، أو صاحب دور. فهو لم ينل في حياته جائزة سوى جائزة اتحاد الكتاب اللبنانيين. ولم يلق من أقرانه سوى الإجحاف والجحود. ولم يدخل مرة في سجالات حول ريادة شعره، بل كان يكتفي بقصيدته. وكان بتهذيبه وتواضعه الجم يتعالى ويترفّع. ولكن ماذا يقول الحيدري عن كتابه الأول، وما هي المؤثرات التي أنضجت التجربة؟ يقول: «هو أول ديوان يصدر في العراق ويحمل توجهات جديدة، ولكن ليست غريبة عن العالم العربي. كان هناك تأثير للشاعر عمر أبو ريشة، ولمحمود حسن إسماعيل، وإلياس أبو شبكة. كلهم أثّروا في تجربتي الأولى، التي وإن كانت غير واضحة، ولكنها عبرت بلغة مختلفة عن اللغة السائدة.»
عام 1951، أصدر ديوانه «أغاني المدنية الميتة»، التي تبينت ملامح شعره، وحازت مجموعته على إعجاب ناقد كبير هو جبرا إبراهيم جبرا، الذي قال: «لن تستطيع أن ترفع بيتًا واحدًا من قصائده من دون أن تنزل فجوة ظاهرة في المعنى والتركيب». تأثرت تجربته في البداية بالشعراء الرومانسيين، ثم كانت المرحلة الواقعية، وفيها الالتزام السياسي. وتأثر بالفكر الوجودي الذي يركز على الحرية والرفض والسأم.
ذاع اسمه في العراق كناقد تشكيلي، وقد رافق وصادق رواد الفن العراقي، مثل جواد سليم، وفائق حسن، وغيرهما. وكان مع جبرا من أوائل نقاد الفن التشكيلي، وساهم مع نزار سليم، وفائق حسن، في تأسيس جماعة «الفن الضائع». هذه الجهود المميزة في الفن التشكيلي والصداقات والذكريات جمعها لاحقًا في كتاب «زمن لكل الأزمنة» (1979).
أصدر عام 1960 «جئتم مع الفجر»، وأتاه زوار الفجر، وتم اعتقاله عام 1963، بعد الانقلاب، وأطلق سراحه فغادر العراق إلى بيروت. وبالفعل، كانت بيروت خيمته وملاذه.
درّس اللغة العربية في مدرسة برمانا الدولية، ثم تولى إدارة المدرسة. كما أسس مع أدونيس مجلة «مواقف»، ولكنه ما لبث أن تركها محتفظًا بصداقته مع أدونيس. كتب عن تجربته البيروتية يقول: «في بيروت أدركت أهمية أن أكون ديمقراطيًا، وأن أفهم الآخر، وأن أؤكد أن كل الأبواب مفتوحة بعضها على بعض».
عمل في لبنان في الصحافة، وأصبح عام 1970 رئيسًا للمؤسسة اللبنانية للطباعة والنشر، ورئيسًا لتحرير مجلة العلوم. كما اشترك مع عالية ممدوح عام 1974 بالإشراف على تحرير مجلة «الفكر المعاصر». وتابع في بيروت إصدار كتبه الشعرية: «خطوات في الغربة» (صيدا 1965)، و»رحلة الحروف الصفر» (1968)، و»حوار عبر الأبعاد والثلاثة» (1972).
في نهاية عام 1974، زار العراق مشاركًا في مهرجان أبي تمام، وعاد إلى بيروت. وخلال أشهر قليلة، اشتعلت الحرب، فعاد إلى بغداد ليعمل في مجلة «آفاق عربية». ولكن الأحوال السياسية في العراق لم تشجعه على البقاء. وكانت وجهته هذه المرة إلى لندن، التي أقام فيها منذ العام 1982، وترأس فيها تحرير مجلة «فنون عربية»، وشاركه في تحريرها جبرا، وضياء العزاوي. كما كتب في مجلة «الوسط» اللندنية. ونشط في الحركة العراقية المعارضة في المنفى مساهمًا في تأسيس «اتحاد الديمقراطيين العراقيين». عام 1983، أصدر ديوان «أغاني الحارس المتعب» (بيروت)، و»إلى بيروت مع تحياتي» (1989)، و»أبواب إلى البيت الضيق» (1990)، و «آخر الدرب» (1992). وأعيدت طباعة أعماله أكثر من مرة، كما صدرت في مجلد واحد تحت عنوان «الأعمال الكاملة». ترجمت بعض أشعاره إلى الإنكليزية، على يد دزموند ستيوارت، الذي كتب في مقدمة الترجمة: «شعر بلند الحيدري يعبر عن الشعور بالخيبة الذي يكتنف العصر الحديث، وبتعبير صادق مغاير، عن قصائد الحماسة لدى الشعراء السياسيين».

بغداد في ثوب الحداد
لبث بلند الحيدري يحن حنينًا صادقًا إلى بغداد، وهو يعاني وطأة المنفى، وكتب في آخر ما نشره في مجلة الوسط: «بغداد/ تلك الفاتنة السمراء/ لماذا ما عدت أراها/ إلا في ثوب حداد/ إلا في ظهر منحني/ أو جلد مهري/ أو شهقة امرأة ثكلى/ أو دود يتوالد ما بين عيون القتلى/ وخرائب سود يتسكع فيها الموت/ وليس فيها صمت رماد/ بغداد/ ما عدت أراها إلا في سوط ما زال يقهقه في كف الجلاد». وكما بغداد كتب عن بيروت: «بيروت/ يا موتًا أكبر من تابوت/ يا موتًا لا يعرف كيف يموت».
قبل ثلاثة أسابيع من رحيله، أصدر ديوانه الأخير، وقد أدرك أن المنفى قدره المحتوم، فلا عجب أن يعنونه «دروب في المنفى». كان على موعد مع مهرجان أصيلة في المغرب بصحبة الشاعر اللبناني، محمد علي فرحات، وذهبا معًا لإحضار تذكرتي سفر، فتعرض لأزمة قلبية حادة استلزمت عملية جراحية في مستشفى برومتون. وقبل دخوله إلى المستشفى، كتب عن منفاه: «كان المنفى قائمًا في داخلي منذ وعيت نفسي كائنًا شعريًا وسياسيًا في آن. والغربة بهذا المعنى كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد. مما دفعني، يومذاك، للهرب من داري في قصر العائلة، لأتشرد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان». بعد العملية الجراحية، لم يحتمل القلب جرح المرض، ولا جرح المنفى، فتوقف في السادس من آب/ أغسطس 1996، عن سبعين عامًا.
وكتب شعرًا متنبئًا بالموت في الغربة والمنفى: «لكني… وأنا في أرذل ما أملك من عمري/ أخشى أن يدرك عيني الغمض/ وأنا منفي لا تعرفني أرض/ منفي إلا من صمت مر/ إلا من وحشة ميت يبحث عن قبر». أو «وها أنا أموت يا أختاه/ كما يموت النسر في منفاه/ ولست غير خطوة/ غرستها في الرمل/ كي تحلم بالمياه».
وإذا كانت المؤسسات الثقافية لم تكرمه، فقد كرمه معاصروه بشهادات مهمة، كمثل ما قاله عبدالوهاب البياتي عام 1952 «بلند الحيدري شاعر مبدع في أساليبه الجديدة التي حققها، وفي طريقته التي لا يقف معه فيها إلا شعراء قلائل من العراق». وقال عنه بدر شاكر السياب: «يقف بلند الحيدري في طليعة الشعراء العراقيين الذين جددوا الشعر العراقي. هذا الشاعر الممتاز الذي أعتبر العديد من قصائده الرائعة أكثر واقعية من مئات القصائد التي يريد منا المفهوم السطحي للواقعية اعتبارها واقعية». وكتب نزار قباني «بلند الحيدري لن يتكرر، لأن الملائكة لا يتكررون.»
كان بلند الحيدري يعرف عصره، ويعرف الفرق بين المجهول والمعلوم والقاتل والمقتول، لذلك كتب: «لكني/ أعرف أني/ قد أولد مرات في زمن يتمنى القاتل/ لو كان هو المقتول».

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة