ثورويات متأخرة

يقال عمن تتقمصه انفعالات وردود افعال من هم في عمر ابنائه أو احفاده؛ بانه يعيش “مراهقة متأخرة”. تجليات مثل هذه الظاهرة نجدها في مجال النشاط السياسي، تشكل ما يمكن أن نطلق عليه بـ “ثورويات متأخرة” حيث يتدافع غير القليل من كبار السن وبعضهم في أرذل العمر، لتصدر ما يشغل الاجيال الجديدة من هموم واولويات تنسجم وطبيعة اعمارهم الفتية وقدراتهم الجسدية والانفعالية. مثل هذه الحالات من التطفل على تراتبية الاجيال وخصوصية ما تمنحه الطبيعة لكل جيل من هموم واهتمامات وقدرات، كثيرا ما تلحق اشد الضرر بالتطور الطبيعي للمجتمع (افرادا وجماعات). فشريحة الشباب تتسم عادة بالحماسة والاندفاع والذي يصل الى حد التهور احياناً، وهي بالرغم مما يرافق اعمالها من تسرع وقلة في اخذ الحيطة من عواقب وتداعيات ما يندفعون للقيام به، فانها جزء من فاعلية لا غنى عنها في صيرورة المجتمعات وتجددها. أما ان ينتاب “كبار السن” مثل تلك الحماسة والانفعالات، فان ذلك يستدعي الاستعانة بمتخصصين من خارج الحقل السياسي والحزبي.
الاجيال الجديدة لا تحتاج من “كبار السن” مثل تلك الاستعراضات في بورصة الانفعالات الثوروية، فلديها ما يكفي ويفيض، ما يحتاجونه فعلاً يقتصر على؛ الخبرة والحنكة والدهاء وما تراكم منها من احتياطات يمكن ان تعينهم لاسئناف أفضل ما عرف لدينا من قيم وتقاليد. وعندما نتمعن قليلا في علل تجنب المسكونون بـ “الثورويات المتأخرة” مثل هذه الوظيفة الاساسية لكبار السن؛ نجدها تكشف عن حقيقة عدم امتلاك هذه الشريحة الصاخبة، لمثل تلك التجربة الحقيقية من الكفاح، والتي تؤهلهم لتقديم ما “يمكث في الارض”، لذلك نجدهم يتشبثون بجلباب “الثورويات المتأخرة” أملاً بتعويض ما فرطوا به زمن الشباب، لكن هيهات ان “يصلح العطار ما خرب الدهر”. خطورة هذا النوع من “كبار السن” تكمن بما امتلكوه من قدرات على تبرير أفدح الوقائع والاحداث المشينة، باجمل واشهر العبارات والشعارات والمانشيتات، يساعدهم في ذلك حجم الانفلات والافلات من المحاسبة والعقاب في بلد يتم فيه الاحتفاء بالقتلة والمشعوذين واللصوص، ونبذ ومحاربة كل من يبتلى بلعنتي (الكفاءة والنزاهة).
ان خداع الاجيال الجديدة بوهم اجتراحهم لاعظم ما عرفه تاريخ العراق الحديث “احتجاجات تشرين من العام 2019) تمثل انموذجاً لأسوأ انواع التزلف والتملق التي خطتها اسهالات ثورويو الوقت الضائع. كما ان تدبيج كل هذا الكم الهائل من الكتابات المتخصصة بشتم ولعن من تلقف مقاليد امور عراق ما بعد 2003، لا يقدم لشريحة الشباب الغاضب اصلاً اي جديد أو نافع في مواجهتهم لخراب البشر والقيم الذي خلفته حقب الاستبداد واللصوصية والاذلال. ان محاولات دق اسفين بين الاجيال الجديدة والاجيال السابقة، ووصف الاخيرة بابشع نعوت الخيانة والتخاذل يخفي وراءه؛ مقاصد اخرى لا علاقة لها بالمشورة والنصح كما يدعي اصحابها. نعم، قد ينطبق ذلك على من يروج لمثل تلك التهم الباطلة، لكنها بكل تأكيد تتنافر وما يقبض عليه اصحاب التجارب الحقيقية في العمل والنشاط السياسي والحزبي؛ من وعي عميق وخبرة في المجال الاكثر اهمية في حياة المجتمعات والدول (السياسة). ان دفع الشباب لدروب القطيعة مع ما جرى للاجيال التي سبقتهم؛ يعني الاستفراد بهم الى حيث لا ينفع بعده ندم ولا نحيب…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة