سلفيو الحداثة واليسار

يذكر عن كاتب “البيان الشيوعي” ومؤلف “رأس المال” وواضع اسس الشيوعية واليسار الحديث، الفيلسوف الالماني ذائع الصيت كارل ماركس (1818- 1883)؛ انه اضطر لكتابة مقال في أواخر حياته لينفي تهمة الماركسية عن نفسه، عنوانه (انا لست ماركسياً)، يتضمن النقد الشديد لظاهرة تحويل افكاره واجتهاداته الى ما يشبه دين جديد، يتم فيه ترتيل نصوصه وتحويلها الى ايقونات مقدسة. أي ان الأب الروحي لما عرف لاحقاً بالماركسية، قد انتبه لبواكير ذلك الخطر المميت لميراثه الفكري المستند الى اساس مكين مما عرف بمنهج (المادية- الديالكتيكية)، ومن ثم جاءت الاحداث والتجارب التاريخية لتؤكد حجم الخطر الذي شكلته قوافل “السلفيين” على حيوية وديناميكية حركات الحداثة واليسار. وكما حصل مع اجدادنا قبل أكثر من الف عام، عندما انتصر الحنابلة (سلفيو عصرهم) على عقلانيو ذلك العصر (المعتزلة)، سمحت شروط الانحطاط لـ “سلفيو الحداثة واليسار” بفرض هيمنتهم على ما تبقى من سكراب هذه الحركات الاجتماعية والسياسية، التي سعت في النصف الثاني من القرن المنصرم، لنقل شيئا من قيم وثقافة الحداثة والتنوير، لمجتمعات اغتربت عن كل ما يمت للعقلانية بصلة.

كما افرزت طول مدة الركود والانحطاط في الفكر الديني ومؤسساته، صعود غير مسبوق لمكانة ونفوذ القوى السلفية من شتى المستويات والوظائف والعناوين، مثلت تنظيمات مثل طالبان والقاعدة وداعش وباقي قافلة التوحش والاجرام سنامها الاعلى، كذلك الحال بالنسبة لـ “سلفيو” معسكر الحداثة والمدنية واليسار، حيث لا تطيق ديناصوراته اي مروق عما تشير اليه بوصلة النصوص الخالدة والشعارات العابرة لزجر الزمان والمكان، فاي شكل من اشكال التنوع والتعددية تشكل خطراً على وهم وحدتهم الفاشوشية. ومن سوء حظ سكان هذا الوطن القديم، انهم وبالضد مما كتب وعرف عنهم من خصائص اوجزها احد ابرز ممثلي مدرسة العقل الجاحظ بعبارته: “أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث و..” نجدهم اليوم تحت رحمة كل انواع السلفيات الوافدة الآخروية منها والدنيوية، وهم في اوضاعهم الحالية والتي لا تحسدهم عليها آخر القبائل التي تركت حياة الادغال، يقدمون مثالا حيا على ما قاله هيغل: “التاريخ يعيد نفسه احياناً، مرة على شكل مأساة واخرى على شكل ملهاة”.

العراق اليوم وبالرغم من احواله المتردية في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية؛ بأمس الحاجة الى وعي خطر هذه الاوبئة التي تشده الى الماضي وتعطل فيه اهم خصيصة (العقل) وما يرافقه من شغف وفضول معرفي لمواصلة “التنقيب والبحث و..”، وهذا الامر سيكون عسيرا من دون الالتفات الى ما ابتلت به ما يفترض انها تمثل الضد النوعي لمثل هذه الردات الحضارية، أي قوى الحداثة والعقلانية واليسار. ومن المؤسف ان تمر كل هذه المؤسسات الاكاديمية والعلمية وما يسمى بمراكز البحوث والدراسات، والتي من المفترض انها أكثر المعنيين بامر العقل وهمومه والمتجحفلين معهم من المنتسبين لاندية الانتلجينسيا المختلفة، بهذه المصيبة الوطنية والحضارية “سطوة السلفية” ومنهج النقل والاجترار والتلقين، من دون اي حس بتأنيب العقل والضمير، تجاه تخاذلهم وتواطئهم مع ما يمثل الضد النوعي لما اكتشفه الجاحظ في اهل العراق منذ أكثر من الف عام وعام…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة