الاحتجاجات الجماهيرية الحالية وغياب العامل الذاتي

عواد احمد صالح*

في النظر الى طبيعة الاحتجاجات الجماهيرية في العراق ولبنان وقبلها في الجزائر والسودان والان في بعض بلدان اميركا اللاتينية لا بد من ادراك ان مشروعية وثورية تلك الاحتجاجات لا تكمن فقط في المطالب السياسية وعلى رأسها تغيير الحكومات ومكافحة الفساد والانفتاح الديمقراطي واحترام الحريات المدنية ومناهضة عنف السلطة او الجماعات المسلحة بل وايضا في معرفة مطالبها الاجتماعية الكامنة وراء تلك الحراكات ، لذلك فان أي حراك او احتجاج لا يهدف الى تغيير اجتماعي سياسي جذري في الاساس لن يكون الا محدودا وناقصا … ان التغيير الحقيقي يجب ان يتجه لتلبية مطالب الجماهير الكادحة والمهمشة ويخفف من معاناتها واعباء حياتها ويفتح امامها افاق العدالة والحرية والمساواة والعيش بكرامة وامان .

الثورات غير المكتملة
الاحتجاجات الحالية في مختلف البلدان هي شكل من اشكال الثورات وفي جوهرها هي ثورات جماهيرية عفوية تتسم بالعمق والاصالة وذات مطالب مشروعة وتاريخية وتمتزج فيها المطالب السياسية مع المطالب الاجتماعية ضد الانظمة الطبقية القائمة الفاسدة التابعة للرسمال العالمي والتي تسبب الجوع والافقار والبطالة والتهميش كما في العراق ولبنان والجزائر وتشيلي وغيرها في سياق سيرورة عالمية لاوضاع ثورية ستستمر لمراحل قادمة حيث الجماهير في حقيقة الامر تواجه انظمة رأس المال عالميا وفي اطار كل بلد وحتى الان فان الاحتجاجات والثورات ذات المضمون الاجتماعي والطبقي لم تتمكن اكثر من تحقيق بعض المطالب الجزئية مثل توسيع الديمقراطية والمطالبة بعدالة الانتخابات وحرية الرأي والتعبير والشفافية ومكافحة الفساد والعنف .. الخ وبقاء المطالب الاجتماعية الملحة التي تتعلق بتخفيف حدة الفوارق الطبقية ومكافحة الفقر والتخلف والجوع وايجاد فرص العمل او الضمانات الاجتماعية تبقى هذه المطالب – وهي مطالب اساسية وتشكل جوهر الحراكات الجماهيرية -غير متحققة وقد راينا انها لم تتحقق في ما سمي ثورات الربيع العربي واليوم في السيرورة الحالية فان السلطة في البلدان التي تحدث فيها الاحتجاجات وتحت ضغط الجماهير ، وزعم الاصلاح مرشحة للانتقال من جناح من اجنحة البرجوازية ( الوطنية او القومية او الاسلامية ) الى جناح اخر هو جناح البرجوازية الليبرالية الاكثر انفتاحا ودائما ما تمارس هذه الطبقة الانفتاح الاقتصادي وتتجه الى الاندماج بالسوق الرأسمالي العالمي اكثر فاكثر. وتظل المشكلات الاجتماعية المتعلقة بمعالجة التمايز الطبقي والفقر والتوظيف ومكافحة الفساد دون حل جذري .
ورغم زخم الاحتجاجات وقوتها والتضحيات التي يقدمها المحتجون كما يحصل في العراق ( اكثر من 350 من المضحين لكن الجماهير قد لا تتمكن من تحقيق اهدافها ومطاليبها السياسية كاملة ، بوضوح اكثر بدون الاشتراكية لن يكون مسار الثورات والاحتجاجات لصالح الجماهير الكادحة في نهاية المطاف ، هذا مع وجود عديد من قوى واحزاب اليسار الجذري التي تتبنى الحل الاشتراكي لكنها عموما ضعيفة تنظيميا وسياسيا وغير قادرة على التأثير الواضح في معادلة السلطة .
وفي حقيقة الامر فان المطلوب جماهيريا وعلى صعيد كل الاحتجاجات في المرحلة التاريخية الحالية هو الانتقال من المطالب الديمقراطية الداعية للعدالة الاجتماعية والشفافية ومكافحة الفساد ذات الطابع البرجوازي الديمقراطي الليبرالي الى المطالب الاجتماعية الطبقية الاشتراكية المعادية لراس المال والملكية الخاصة والتمايز الطبقي التي يعبر عنها بدقة مفهوم (الثورة الدائمة) هذا المفهوم الذي يمكن من خلاله استقراء وتعريف الثورات والاحتجاجات الحالية في بلدان المحيط الرأسمالي بانها ثورات تندمج وتتحد فيها عملية استكمال المهام الديمقراطية مع افق واضح للمهام الاشتراكية كبلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا واميركا اللاتينية .
بدون قيادة الجماهير المحتجة بواسطة حزب عمالي من الطراز البلشفي لديه منظور ثوري للتغيير بدون هذا الحزب – العامل الذاتي – لن تتمكن الجماهير العمالية المفقرة والكادحة والمهمشة في أي مكان من الانتصار على العدو الطبقي وانجاز التحولات التاريخية في اقامة مجتمع جديد اشتراكي تعالج فيه بشكل جاد الازمات الاجتماعية والسياسية مثل مشاكل الفقر والفساد والسرقة والتمايز الطبقي وايجاد حياة حرة كريمة .
ان قادة الاحزاب اليسارية الاصلاحية التقليدية وقادة النقابات العمالية والتنظيمات الاشتراكية الديمقراطية هم اليوم متحالفون مع الطبقات الحاكمة وليس لديهم أي منظور ثوري للتغيير . صاروا مجرد رافعة في خدمة الأنظمة السائدة وتنفيس ازماتها ، لا يعرفون من النضال سوى المشاركة في الانتخابات والبرلمانات والحوارات السياسية المهادنة .

مخاض ثوري على الصعيد العالمي:
البحث في خصوصية الوضع العالمي في المرحلة التاريخية الراهنة تكمن فى الاجابة على بعض التساؤلات مثل هل نحن في مخاض ثوري على الصعيد العالمي؟ هل نحن في مرحلة نهوض جماهيري في مختلف بقاع العالم ضد النظام الرأسمالي بصوره المختلفة؟ .. وفقا لكل بلد ولكل مجتمع ؟، هل الرأسمالية في ازمة خانقة..؟ الجواب على ذلك نعم .. لكن نجاح الثورة الاشتراكية في اي بلد يتعلق بعاملين اساسيين متداخلين ومرتبط احدهما بالاخر العامل الاول هو تنظيم الجماهير المليونية المحتجة على الفقر والظلم والتمايز الطبقي في اطار مجالس جماهيرية ولجان ثورية ووجود حزب ثوري عمالي جماهيري واسع يعبر عن امالها وصبواتها حزب يسعى للتغيير على مستوى الهدف والبرنامج تجعل منه الجماهير اداتها الفاعلة لتحقيق مطالبها في مجتمع خالي من التمييز الطبقي والظلم الاجتماعي ويحقق الحرية والرفاه .
اما العامل الثاني فيتعلق بالامكانية المتاحة سياسيا واجتماعيا وعلى صعيد عالمي ، باستعداد الطبقة العاملة والجماهير المحتجة لوضع افق وتصور اشتراكي لأهدافهم واحتجاجاتهم بتطهير الاشتراكية مما علق بها من ادران وتشوهات ارتبطت بالتجارب السابقة واعادة البريق لها ولاهميتها التاريخية غير القابلة للانكار او المحو كما استنهاض الارادة والروح الثورية للمناضلين الثوريين الشيوعيين والاشتراكيين في كل مكان والخروج من قوقعة الممارسات والسجالات اليومية الخجولة والليبرالية السطحية والباهته .
ان النظام الرأسمالي يقف اليوم بوجه أي ثورة او ثورات ممكنة . كما انه سيقاتل حتى اخر نفس لمنع عودة نموذج اشتراكي ناجح يستلهم تجربة ثورة اكتوبر البلشفية على سبيل المثال او قريب من تلك التجربة ، بديل اشتراكي مختلف عن انماط الرأسمالية سواء رأسمالية السوق الحر او رأسمالية الدولة البيروقراطية. فالرأسمالية عيونها ووسائل اعلامها وشبكاتها ومخابراتها وعملائها وجواسيسها كل هؤلاء اعينهم مفتوحة ليل نهار للانقضاض على اي ثورة ممكنة ووضع العراقيل امامها واجهاضها ، ما يفعلوه اليوم تجاه تجارب اجتماعية تقدمية في اميركا اللاتينية في فنزويلا وبوليفيا والبرازيل ومحاولات اسقاط تلك التجارب ذات الابعاد الاجتماعية التقدمية والاستقلالية هو دليل على تطيرهم وخوفهم .. .لذك فان السيرورة الثورية تقتضي التضامن الاممي والعمل المشترك لقوى اليسار الجذري والثوري في سبيل دفع الجماهير المحتجة والعمل بين صفوفها لإحداث الثورات في اكثر من بلد واحد وبقدر ما يكون ذلك ممكنا.
ان النضال الطبقي والاجتماعي وحدة على المستوى الاممي سيقرر في نهاية المطاف مصير الثورة الاشتراكية على صعيد عالمي .لكن لا ينبغي ان تحبط التحديات القائمة ارادة الجماهير العمالية وعزيمتها على كسر شوكة النظام الرأسمالي المتعفن الذي هو سبب كل المصائب والمعاناة والحروب والارهاب الذي يحدث في جميع البلدان والقارات .
نحن في مرحلة مخاضات وتغيرات عالمية مستمرة ، ستتحرك الجماهير بدون بوصلة واضحة وبدون انتظار اشارة من احد من أي حزب سياسي ، وفي غياب تعبأة سياسية وتضامن اممي يكون مؤثرا وعاملا دافعا لتحقيق النصر . ستتحرك لمواجهة النظام الرأسمالي خاصة في العالم غير الاوربي ضد سياسات الافقار ضد التجويع والقمع والفساد والتمايز الطبقي .
ان الاحتجاجات الحالية في العراق ولبنان والجزائر وتشيلي وبوليفيا وغيرها هي مشاهد واضحة للصراع الطبقي وهي تعبير عن انسداد افق الانظمة البرجوازية الحاكمة في هذه الاقطار فسادها وطائفيتها وما تركت من افقار وتهميش وتمايز طبقي بحق الغالبية العظمى من السكان ، ومن الواضح ان المراكز الرأسمالية الكبرى تصدر ازماتها الاقتصادية الى هذه الاقطار وتفرض شروط الاقراض من صندوق النقد الدولي وسياسات الليبرالية الجديدة المتوحشة .
نهوض حركة ثورية اشتراكية اممية معبرة عن معاناة العمال والشبيبة والنساء ونزوعهم لحياة ومجتمع افضل مرهونة بالتنظيم لقواهم الذاتية والثقة بالطبقة العاملة ، التي هي الطبقة الوحيدة التي تخلق كل الثروة في المجتمع، واعادة استلهام الأفكار الماركسية لانها الافكار الوحيدة التي تعلم معرفة ونقد اليات المجتمع المعاصر وترسم طريق الثورة والتغيير كما تعلم ، بناء القوى الضرورية لقيادة الكفاح من أجل تغيير المجتمع، لإنهاء الرأسمالية التي تمثل نظام القسوة والظلم والاستغلال والعبودية ، وتحقيق انتصار الاشتراكية في جميع أنحاء العالم.

*شاعر وكاتب عراقي يعنى بالادب والسياسة
عن الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة