يوميات عزاء غضة والزمن

نرجس عمران

جلستُ أراقب المعزيات اللاتي أتين كي يعزين بوفاة قريبتي التي هي بمثابة الخالة لي، وفي رأسي أفكار تُحدث بعضها وعينياي مشغولتان بالتنقل والتجوال بين ملامحهن والهندام وأسلوب الحديث ولم يفتني أبدا إجراء مقاربة أو مقارنة بين ماضي من أتذكر منهن وحاضرها، فمعظمهن حتى الأصغر مني سنا كبرن وبدتْ عليهن ملامح العمر وهذا الأمر حقا قد سأني
فبدتْ على ملامحي بعض علامات الامتعاض، والتي خَالها البعض إنما هي من شدة حزني واستيائي على فراق قريبتي، وهذا الالتباس أسعدني حقيقة نوعا ما،
ولكن الأمر حقا كان مؤسفا جدا بالنسبة لي، أن أرى من يصغرنني بعد غياب ٍلا بأس به قد كبرن وشبّن، فهل يا ترى أنا بنظرهن كبرت بهذا المقدار؟!
وهل ينظرن إلى بعد هذا الغياب بهذا النوع من الاستفهام؟! أم أن هذا الموضوع يشغلني أنا فقط، هذه التي تسرد قصتها، وتلك التي تسرد قصة أخرى، ويصبح مجلس العزاء للأحاديث والثرثرات ونقل الأخبار واسترجاع الماضي والنفاق. طبعا فكل الحضور من أحب المتوفي أو من لم يحبه أبدا يتظاهر بالأسف والحزن والبعض يتذكرن المآسي أو معاناتهن في الحياة أو حبيبهن الكاذب أو الغائب أو قسوة أهلهن أو معاناتهن من زواجات الإخوة أو بيت العم أو الكنة أو سياسة الأب القمعية أو حنان أمٍ تكيل بمكيالين والراجحة تكون لذكورها.
أو أخ متدين قمعي معهن أو متهور وفي الوقت ذاته هو سبور ومتحرر مع الأخريات، أو، أو، وهذا الجهد كله والخوض في هذه الأفكار كلها فقط لاستحضار دمعتين تملأ العيون أمام الحضور فكثيرا منهن وخصوصا في فترة الحرب هذه يصعب عليهن البكاء لقد أصبح الموت أمرا أقل من عادي وفقدَ رهبته حقا.
دخلت امرأة وتبعها شابة عرفتها جيدا كانت قصتها ترافق طفولتي، هذه السيدة اسمها والاسم عليها حقا (غَضّة) حقا إنها غضة وناعمة وطيبة جيدا وحقا فرحتُ لحظة دخلت لقد تذكرتُ الماضي الذي أرهقتُ قسما منه أبكي حالها وأولادها،
وكم تمنيت لاحقا أن أراها ؟! ولكن مسار حياتها وحياتي كان عائقا كبيرا، إنها التي كانت صاحبة الدكان ولديها من الأولاد أربعة، صبورة ضاحكة دوما وكنت أحبها جدا وأشتري من دكانها فقط دون سواه.
المهم أنها تذكرتني هي بدورها أيضا، ربما لم تفرح لرؤيتي بمقدار فرحتي برؤيتها فأنا كنت مجرد طفلة تشتري من دكانها، سألت قريبتي التي كانت بجواري قائلة: يالله إنها غضة بعد كل هذا الزمن إنها هنا ماذا تفعل في بلدتنا؟ !
ولماذا عادت بعد كل تلك السنوات ؟!
وهذه التي تتبعها بهدوء ورقة ابنتها الصغرى
(شروق) أليس كذلك؟ كانت شقراء مياسة القّد كما أتذكرها في صغرها، والأن تبدو حزينةً وملامح الهّم تثقلها، رغم أن الشقَّار والقد المياس مازالا معها لم يفارقانها
أيُّ زمنٍ دار بهم يا ترى ؟؟
أجابتني قريبتي: بأن (غضة) عادت منذ مدة إلى البلدة وهي الأن تعيش مع أولادها
وكم أسعدني الخبر !!!
سألتها وزوجها الثاني ماذا عنه؟ هل طلقها هو الأخر أم مات مخمورا أم؟
أجابتني نعم مات لكن ليس مخمورا مات ميتة طبيعية، وعندما أصبحتْ غضة وحيدة جاءت لتسكن مع أولادها.
فقلت في نفسي حمد الله أنه مات كي يسمح لأم محرومة أن ترى أولادها وتعيش معهم، كم أنت قاسٍ أيها الزمن؟! تجلد البعض بهذه الحياة بالفرقة والحرمان والهجر القسري
سيدتي التي أرفع لها القبعة الأن وعلى الملأ وعلى العام هذه التي تدعى غضة
كانت ضحيةً، وسوط القدر كان قويا بلا رحمة جلدها حتى الحرمان بأعز وأغلى ما تملك الأم وهو الأسرة والأمومة
عندما بدأ زوجها وأبو أولادها يدمن الخمر، وأصبحت تبدأ نهارها أو تنهيه وقد تبدأه وتنهيه وتتوسطه بضربٍ وتعنيف من زوج مخمور، سكير، صبرت ْوصبرتْ فقط كي تبقى مع أولادها
وكل تدخلات الأهل والأقارب والمعارف ومحاولات الجاهة ورجال الدين وغيرهم إلى الإصلاح من شأن زوج عربيد باءت بالفشل
إلى أن استيقظت القرية في ذات صباح على دخان يملأ الهواء، ماسببه يا ترى؟ !
أنه الأب عاد من سهرته في البراري كالعادة مخمورا، وقد أكثر في الشرب، فاقدا لعقله، فأشعل النار في بيته وحوَّله بكل أثاثه إلى كتلة من السواد والجمر
حمدا لله أن الأم وأطفالها نجوا من الحريق، ولكن المغضوب هذا الذي يسمى القوام عليهم لأنه هو الرجل ويمتلك العصمة حسب العرف أو العادة أو التقليد قام بطلاقها بالثلاثة وإرسالها إلى المدينة إلى حيث يسكن أهلها
وبقي الأولاد في بيت جدهم وأعمامهم يتناولون شيئا من الحنان ويقدمون الخدمة مقابلا لها.
وظل الأب شبحا في الليالي، صديقا للخمرة إلى أن خانته خمرته تلك في إحدى السهرات وسلمته لعزرائيل، فتوفي والله أعلم بسبب دفعة خمر مغشوشة كما قيل حينها أو جرعة زائدة منه.
أما الأم الرائعة التي كانت قد تزوجت من رجل أخر يكبرها سنا لتخدمه مقابل أن يسترها ويخفف عبئها عن أهلها، لم تغادرها الأمومة لحظة أبدا، فقد كانت وأغلب الظن تغافل زوجها الثاني وزوجها الأول أيضا، وتأتي إلى المدرسة البعيدة عن القرية نوعا ما حيث المعلمون والمعلمات والكل يعرف بقصتها ويتعاطفون معها يحضرون لها أبناءها لتراهم تعطيهم حنانها وألعابا وطعاما.
وتمضي معهم بعض الوقت الذي تستطيعه، ولم يكن المعلمين لينسوا تنبيهنا بأن لا نقول شيئا عن الموضوع أو بأننا رأيناها أوأنها أتت إلى المدرسة خشية منعها من هذا الحق من قبل أيا من زوجيها في حال عرفوا بذلك.
الحمد لله لقد رحمها القدر حين مات زوجيها بعد هذه السنوات لتعود وتعيش مع أبنائها الذين للأسف حرموا حنانها في طفولتهم ورعايتها في مراهقتهم والأن بعضهم قد تزوج.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة