تأويل المرويات التاريخية .. رواية (دمه) أنموذجا

عبد علي حسن

الجزء الثاني

بحسب قراءتنا التأويلية للرواية فإن المنطقة التي اختار الروائي الأحمد الاشتغال فيها هي من المناطق التي تعد من قبل بعض المذاهب الإسلامية هي من المناطق التي لا يجوز المساس بها بعدها تمثل الراكز والمقدس في التراث الاسلامي ، لذا فإن قراءة الرواية للإجراء الذي اتخذه الخليفة الأموي وعامله القسري والي الكوفة بحق جعدة بن درهم هو نقد ومسائلة لذلك الساكن والراكز الذي آن الأوان لنقده وفق المبادئ الجديدة التي تشكلها الحياة المعاصرة، ولا تكتفي بنقد تلك الموجهات وانما الكشف عن امكانية عصرنتها وتقويض أسسها بما يضمن إعادة تشكل العلاقة مع المخالف ليتحول الى مختلف عبر توفير امكانية التحاور واحترام الآخر، ونرى حاجة المجتمع العربي الملحة الى هذا النهج في التعامل مع المختلف والمتعدد، وتبدت رؤية النص الروائي هذه في العتبة الثانية للرواية ( لم نقرأ تأريخ العقل العربي بحسب تناقضات أساسياته، ولو فعلنا لعبرنا الهوة الملتهبة، التي بقيت بيننا وما زالت تأكل كل ما حولنا النص ص 7) ففي النص السالف اشارة صريحة الى ما وصلت اليه الأمة من تضادات كرسها التعصب وعدم احتمال الآخر المختلف للتحاور معه وفض التناقضات، وبالتحديد في المختلف عليه في تأويل النص المقدس الذي دفع البعض الى تكفير الآخر وعده خارج ملة الاسلام، وفي مكان آخر يصرح المؤلف بالمهمة التي ينبغي ان تقوم بها الأمة وهي ( الإجراء الوحيد الذي يمكننا اتخاذه بشأن الشائن من التأريخ المكتوب، هو اعادة كتابته النص ص7) ولعل ذلك واحدة من مهمات الرواية التاريخية، وهو ما قامت به رواية (دمه) على نحو قوضت فيه عصبية المركز التي كرست الصوت والرأي الواحد والذي توضح في قول الوالي ( أي جدل سوف اعتبره تجاوزا على سلطتي ص22) أما النص التخيلي الذي هيمنت فيه على مستوى الروي شخصية شقيق جعدة المفترض، قد أظهر جعدة بمظهر ايجابي منذ ولادته وحتى موته ذبحا وقدمته الرواية بعده مظلوما وضحية لتعصب فكري لا يسمح بالمغايرة ولا حتى في اجراء الحوار، فمنذ النشأة كان جعدة ذا ميول للبحث والاستقصاء الفكري كونته سنوات عمله نساخا مع ابيه واخيه، حيث كان ذا سعة في قراءة كل مخطوط ينسخه، وانتقل هذا الميل الى شبابه ورجولته وعمله معلما لابن اخ الخليفة، حتى أن عديد من المفكرين والفقهاء قد تأثروا بآرائه وأفكاره منهم الجهم بن صفوان، والى ذلك يشير النص (بات مرجعا معرفيا يستدل اليه من نور الفكر الذي يعرف، كأنه كان يكتب الغازا مثلا انا والكلمة حدان متباعدان، لا نقترب الا عند كل تأويل النص ص 36) لقد كانت السيرة الناصعة لجعدة مثار تدخل العديد من المقربين للخليفة لإطلاق سراحه والعفو عنه حتى أم الخليفة، الا ان مصالح البيت الأموي كانت تقتضي الإخلاص للفقه الذي يدعم ذلك البيت ويقوي من وجوده السياسي.
لقد تمكن الروائي محمد الأحمد من كتابة رواية تاريخية جديدة استمدت حداثتها من موجهات الرواية الجديدة المعاصرة عبر ادارة الأحداث والحرية في تخليق النص التخيلي الذي تناسب ورؤية النص التي توصل اليها من خلال تأويله لمجموعة المصادر والأخبار التاريخية التي تناقلت ذلك الحدث المسكوت عنه لعقود طويلة من الزمن، وعلى الرغم من أهمية هذا الحدث على المستوى التاريخي الا أن الروائي لم يعالجه بشكل مجرد وانما جعله إطارا تتحرك فيه الرواية بحرية لتكريس فنيتها وأدبيتها التي تشكلت عبر اللغة الروائية المتقدمة وكذلك النصوص المجاورة التي تخللت فصول الرواية والتي اكتسبت فعلين الأول استقلالي امتلك دلالته الخاصة والثاني قدرتها على الاندماج في عملية الروي لتكون جزءا من الرواية .
لقد تمكنت رواية (دمه) للروائي محمد الأحمد من تحقيق فعلها الجمالي والمعرفي بتجاوزها الرواية التاريخية التقليدية التي كانت حريصة على نقل الوقائع والأحداث دون مساس، فضلا عن تجاوزها للأطر والأساليب التقليدية لهذا النوع الروائي، اذ كان الروائي حرا في تفسيره لحيثيات الحدث الذي نقله الخبر التاريخي مما ابعد الرواية عن منطقة الوثائقية ليقترب من البناء الفني للرواية بتجاوزها للعديد من تفاصيل الحدث الحقيقي بما في ذلك اسماء الشخصيات، كما لفتت النظر الى: –
1 — تحول الاختلاف في التأويل -النص المقدس تحديدا -الى خلاف يستوجب التكفير الذي يستخدم كذريعة في تصفية واقصاء الخصوم، مثلما ذهب ضحيته جعدة بن درهم والعديد من العلماء والفقهاء والمفكرين، ولاتزال الأمة الاسلامية تدفع ثمن ذلك الخلاف.
2 — بالإمكان إعادة كتابة الوقائع وفق قراءة جديدة لمرويات التأريخ المدونة التي كتبت وفق أهواء آيديولوجية وسياسية تميل الى هذا الطرف أو ذاك، وإعادة كتابة تلك المرويات وفق تفسير وتأويل جديد تأسيسا على المشاكل التي تعاني منها المجتمعات الاسلامية وعصرنتها.
3 — امكانية رفع منسوب التخييل السردي واستثمار التقنيات والآليات الجديدة في كتابة رواية ما بعد حداثية موضوعها التأريخ، ومساءلة المخطوطات والوثائق والشهادات بعدها مناصات داخلية تدعم وجهة نظر الروائي التأويلية.
4 — تبدي براعة الروائي في استخدام الحدث التاريخي إطارا لنص روائي يتجاوز مطابقة الحدث الى بناء نص تخيلي تسهم اللغة في منحه صفة الفنية والأدبية. وبذلك دخلت هذه الرواية منطقة الرواية التاريخية الجديدة المفارقة للكثير من الرواية التاريخية التقليدية وحتى الحداثية لهذا النوع الروائي المهم.
5 — امكانية التعامل مع المرويات التاريخية للوقائع وتكريس ما هو مشكلا لتواصل في المخيال الجمعي لمعالجة المشاكل المعاصرة التي يعاني منها المجتمع.
لقد قدم الروائي العراقي محمد الأحمد في روايته هذه (دمه) واحدة من الروايات التاريخية المهمة والمكونة والممثلة لراهنية الرواية العراقية المعاصرة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة