الصراع الثقافي في أوروبا اليوم

عمرو حمزاوي

ملخّص: التورط في الصراع الثقافي لا يستدعي صياغة برامج سياسات محددة، بل المطلوب فقط هو رفع اللافتات المناسبة والقرع المستمر لطبول جمود وفساد النخب التقليدية.
ما زلت، ومنذ عدت إلى برلين في سبتمبر ايلول ٢٠١٨، أبحث في أسباب صعود اليمين المتطرف في المجتمعات الأوروبية.
خلال الأسابيع الماضية، قرأت نصوص حوارات أجريت مع سياسيين وبرلمانيين يمينيين ينتمون إلى أحزاب حاكمة (إيطاليا) وأخرى معارضة (فرنسا وألمانيا والسويد)، وتابعت مداخلات إذاعية وتليفزيونية للمتحدثين باسم اليمين المتطرف.
طالعت أيضا بعض الدراسات عن طبيعة القواعد الناخبة لليمين ومطالبهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعن حدود تعبير برامج الأحزاب اليمينية المتطرفة عن تلك المطالب، أردت أن أعرف إن كان وراء صعود كارهي الأجانب، ورافضي اللجوء، والراغبين في تفتيت الاتحاد الأوروبي طيف آخر من الأسباب غير الخوف من الغرباء، والقلق على المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية من استنزاف اللاجئين، ورغبت في التلمس الموضوعي والمبتعد عن المبالغة للتداعيات الفعلية لصعود اليمين المتطرف على المؤسسات الديمقراطية التي تدير شئون الأوروبيين منذ انتصف القرن العشرين.
أولا، تشترك أحزاب اليمين المتطرف في إطلاقها للاتهامات بالجمود والفساد والابتعاد عن الناخبين باتجاه أحزاب اليمين واليسار التقليدية، ويعبر اليمينيون المتطرفون هنا، وكما تدلل استطلاعات الرأي العام في المجتمعات الأوروبية، عن انطباعات سائدة بين قطاعات شعبية واسعة لم تعد تتحمل جمود برامج أحزاب يمين ويسار الوسط في فرنسا وألمانيا ورفضهم للتغيير أو فضائح الفساد المتكررة التي ضربت النخب السياسية التقليدية الإيطالية، من جهة، يوظف اليمين المتطرف اتهاماته للأحزاب التقليدية لكي يجتذب تأييد ناخبين بين الطبقات العاملة والفئات محدودة الدخل والتعليم من البيض الأوروبيين سأموا رؤية ذات الوجوه في مقاعد الحكم والمعارضة ويبحثون عن وجوه جديدة تتحدث بلغتهم وتستعمل مفرداتهم عند المطالبة بإيقاف تدفق الأجانب واللاجئين أو الحد من تدخل الاتحاد الأوروبي في السياسات الاقتصادية والمالية وسياسات العمل للدول الأعضاء. ومن جهة أخرى، يكتسب اليمينيون المتطرفون طابعهم الشعبوي من خلال انتقاداتهم المستمرة (بل وعدائهم الصريح) للنخب ويبدون بمظهر السياسيين والبرلمانيين القريبين من هموم ومطالب العمال ومحدودي الدخل من «السكان الأصليين».
ثانيا، تتشابه أحزاب اليمين المتطرف في تبنيها لخطاب سياسي يوظف المقولات القومية لصياغة رفض صريح لوجود الأجانب واللاجئين من غير البيض ولكيان الاتحاد الأوروبي بوضعيته الراهنة، الوطنيون الإيطاليون، القوميون الألمان، الديمقراطيون السويديون، الجبهة الوطنية الفرنسية، بمسميات كهذه يتقرب اليمين المتطرف من المشاعر الوطنية للبيض الأوروبيين الخائفين على ضياع «الهوية الأصلية» لمجتمعاتهم ويستخدم خوفهم لاجتذاب التأييد لبرامج سياسية تدعو إلى إغلاق أبواب أوروبا في وجه الأجانب واللاجئين.
وبمسميات كهذه أيضا يسجل اليمين المتطرف رفضه لانصهار الدول الوطنية والقوميات الأوروبية في اتحاد يدار من بروكسل ولا يستطيع الناخبون التأثير في قراراته، يزعم اليمين المتطرف ذلك متجاهلا للمكاسب الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي حققها الاتحاد الأوروبي لشعوب القارة ومتناسيا لكون الناخبين في المجتمعات الأوروبية يشتركون في تحديد سياسات وقرارات الاتحاد، عبر انتخاب حكوماتهم التي تمثلهم في الاتحاد، ومن خلال انتخابات البرلمان الأوروبي، وهي انتخابات مباشرة يصوت بها الأوروبيون لاختيار هيئة تشريعية تمثلهم، وذات صلاحيات واسعة، بإغلاق أبواب أوروبا في وجه الأجانب واللاجئين، وبإغلاق أبواب المجتمعات الأوروبية على قومياتها البيضاء «الأصلية»، يسجل اليمين المتطرف خروجه على توافق الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار الرافض لعزل القارة الأوروبية عن محيطها الإقليمي والعالمي، والمتبنى لتعميق التكامل والتعاون داخل أوروبا. وبينما أسفر تزايد أعداد الطارقين لأبواب أوروبا عن انتشار الخوف على ضياع الهوية الأصلية بين قطاعات واسعة من البيض الأوروبيين، رتب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي المزيد من الدعاية المضادة للاتحاد في أوساط اليمين المتطرف الذي صارت الكثير من أحزابه تتحدث صراحة عن مغادرة الاتحاد ورغبتها في تنظيم استفتاءات شعبية مشابهة للاستفتاء البريطاني.
ثالثا، تظهر استطلاعات الرأي العام وكذلك دراسات تفضيلات الناخبين وسلوكهم التصويتي أن القواعد الناخبة لليمين المتطرف لم تعد ترى لا السياسة ولا المؤسسات الديمقراطية كمجال للصراع السلمي بين اليمين واليسار بشأن قضايا مثل النظم الضريبية، وسياسات العمل والأجور، وإعانات البطالة، والعجز والرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية.
جل ما يراه ناخبو اليمين المتطرف في السياسة هو صراع ثقافي بين دعاة فتح أبواب أوروبا للأجانب واللاجئين، وبين المطالبين بإغلاق الأبواب. بين دعاة تبني قيم عصرية تحض على الحرية والمساواة وقبول الآخر، وبين الباحثين عن إنقاذ ما يرونه الهوية الأصلية، والمتمسكين بفهم تقليدي للقيم الدينية المسيحية، يرفض على سبيل المثال زواج المثليين. صراع ثقافي بين دعاة الانصهار في اتحاد أوروبي تذوب به القوميات واللغات ويتضامن به الأغنياء مع الفقراء، وبين القوميين المدافعين عن المشاعر الوطنية والمطالبين بالحفاظ على القوميات داخل أوروبا حتى وإن كان ثمن ذلك، الخروج من الاتحاد.
تفسر حقيقة أن ناخبي اليمين المتطرف يرون السياسة كمجال لصراع ثقافي يؤيدون به من يرفع لافتات إغلاق الأبواب والدفاع عن الهوية الأصلية والحفاظ على القوميات داخل أوروبا، تفسر هذه الحقيقة محدودية اهتمام ناخبي اليمين المتطرف بالبرامج السياسية لأحزاب كالجبهة الوطنية الفرنسية وحزب البديل لألمانيا وحزب ديمقراطيي السويد والائتلاف اليمين الحاكم اليوم في إيطاليا. فالتورط في الصراع الثقافي لا يستدعي صياغة برامج سياسات محددة بشأن الضرائب وسوق العمل والرعاية الاجتماعية، ولا يستلزم التميز في الأطروحات الانتخابية عن المقولات البسيطة التي يتداولها الناس حول وجود الأجانب واللاجئين والدور الفعلي للاتحاد الأوروبي. المطلوب فقط هو رفع اللافتات المناسبة والقرع المستمر لطبول جمود وفساد النخب التقليدية، والخوف من الغرباء وعلى الهويات الأصلية والقيم التقليدية، وضرورة مواجهة الانصهار في اتحاد أوروبي يلغي القوميات.

مركز كارنيغي للشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة