ريسان الخزعلي
*..في الطريق الى الناصرية
قد يُصادفك مشحوف لم يُكتب عليه لفظ الجلالة
إنه يعود لبوذا ، وقت جاء يتعلم العزف الجنوبي
….،
ربما تسمع وانت ذاهب الى الناصرية اصواتاً لم تسمعها ..*
( 1 )
يبقى المكان الأول مترسباً في مستقرات الذاكرة ، تستعيده ُ نداءً روحياً كلما اهتزت سعفات الروح مع لفح الرياح الداخلية . انَّ مغادرة المكان الأول ، اختياراً أو اضطراراً ، تترك شرخاً في الاعماق القصية ، ومثل هذا الشرخ يتسع كذاكرة لاتمحوها المقادير وتحولات الزمن . وفي لحظة حرجة ضاغطة يستدرك المُغادر ( غواية ساعاته ) وينتفض ، ليعود من حيث أتى ، كي يمسك الفقدان حتى ولو بالتراسل البريدي كما فعل الشاعر المبدع / عدنان الفضلي / في مجموعته ( بريد الفتى السومري ) حيث : الناصرية ، أور ، أوروك ، الفرات ، وقائع مكانية وزمانية في الوقت ذاته ، وقائع لا يمحوها غبار النسيان ، وقائع صورة في خزائن ، يمكن الوصول اليها بالمفاتيح الساخنة لكشف مغاليقها ، والمفاتيح هنا نصوص نثرية متعالقة مع فكرة الشعر : ماسقط من مسلة سومر ، الناصرية التي في العلا ، بريد الفتى السومري ، أغازل امكنة الجنون – حيث اوروك المرأة والمدينة على السواء :
لي ممكنات العشق والخبل
ودوني ..هذيانات الذين تراخوا عند مدخل الإرتقاء
بكفيَّ قبضت على غيمة وردية
سحبتها الى حقل اشتهائي فأمطرنا معاً
بعيني..رمقت نجمة في أقاصي الجنوب
فانعكس الجنوب بريقاً في مقلتيّ…
انَّ البريد في ( بريد الفتى السومري ) بريد ارسال لابريد استلام ، لأن الشاعر ونصوصه في الطريق الى المستقر الاخير- الماء والقصب والزقورة ، في الطريق الى سرّة الكون :
لي..بريد الفتى السومري
يراسل انثى..من بيت البنفسج جاءت
فتخاذل عند شفتيها الدعاء
فاستبدلته بقميص احمر …
( 2 )
في المفتتح الآخر ، الشاعر يكتب نصوصاً نثرية / قصائد نثر في تداخل مع الشكلين ، غير ان استهلالات بعض النصوص تجيء بإلايقاع الموسيقي ، الايقاع القادم من الوزن الخليلي ، وربما ينشط اللاوعي في حفريات الشاعر كما هو معتاد في الكتابة النصوصية حيث يتسلل ( الشعري ) الى ( النثري )..، والعكس وارد ايضاً :
لي ممكنات العشق والخبل…. البحر الكامل
كلُّ هذا الضجيج وأسمعكم…. البحر المتدارك
نعم ياصديقي………………البحر المتقارب
ماتقدّم امثلة ، تُدلل على الارتكاز الموسيقي الذي يبدأ به الشاعر نصوصه ، وهو ارتكاز يقود الى الاستغراق سريعاً . يقود الى دالة ( كيف تبدأ القصائد..كيف تنتهي القصائد ) .
( 3 )
في قصائد ( بريد الفتى السومري ) تتنوع البناءآت لتكسب اللحظة الشعرية الكامنة في النثر ، فمن القصيدة المقطعية ذات التسلسل الرقمي الى القصيدة بالعناوين الفرعية الى القصيدة المسترسلة ، ومثل هذا التنوّع يوفّرمناخاً شعرياً لا يُثير الملل في التلقي والاستقبال الفني ، حيث لا مشاغلات فلسفية غامضة ولاطروحات فكرية شوّشها سوء الاستيعاب كما شوّشت الاستيعاب هي الأخرى. قصائد مكتفية بالوضوح والبساطة ، والبساطة هنا لاتعني التبسيط ، فبساطة الشعر غير شعر البساطة ، والوضوح لايعني الانكشاف على السطح ، انه وضوح فكرة الشعر والموضوع ، بدراية واعية بالذي يحصل في تحولات الشعرية الجديدة ، قصائد تتفاعل مع الحسيّات والغنائية العالية بعيداً عن التأويل :
أوروك ..
دثّريني بك ِ
امنحيني فرصة ً
أن ارصَّ الغناء على شفتيك…
الشاعر / عدنان الفضلي / في هذه المجموعة يُذكّرنا به فقط ، وهذه علامة في الخصوصية ، بل انها العلامة….