يوسف عبود جويعد
تؤكد لنا الشاعرة ميادة المبارك في مجموعتها الشعرية النثرية ( لك تفاصيل الماء) أن سحر القصيدة لا ياتي من خلال المفردة الشعرية الحسية وحدها, وكذلك لايمكن للإنزياحات والصور الاستعارية البديلة أن توصلنا لهذه الإنثيالات الشاعرية الكبيرة من خلال الثيمة او وحدة الموضوع , أو رؤية القصيدة ببنائها الذي يحوي ادوات صياغتها , دون أن تكون هناك لمسات فنية تؤطر النص , ومن خلال تحليلنا لهذه المجموعة وجدت أن لشاعرة , قد أضافت لادوات فن صناعة القصيدة النثرية , سمات اخرى دخلت ضمن بناء النص , فمنحته الق وسمو وحلقت به الى فضاءات الحلم الشعري الذي يكمن بين ثنايا روحها , ووجدانها , وتكوينها الأنثوي الرقيق الشفاف الذي يميزها عن سواها , لتبتعد في ذلك عن الاساليب التقليدية في صياغة القصيدة النثرية التي تؤطر بمفردات انزياحية ورؤية تنتمي لهذا الاسلوب , لكنها خالية من اية أضافات او لمسات سحرية او فنية تضفي على النص طابع التميز, لأننا سوف نكتشف صوت المرأة الحالمة, العاشقة , وهي ترسم ملامح نصفها الآخر , ولكن بمفردات وصورة ورؤية نابعة من أعماق الروح , وسوف نكتشف أيضاً بأنها أدخلت صوت الموسيقى لكنه مضمر بين ثنايا النص , نسمعه نحسه ينساب الى نفوسنا بنغماته الهادئة المتدفقة ليساهم في زجنا في عالمها الشعري فنحلق نطوف في أروقة النص ونحن نشعر بهذا التدفق الموسيقي , الذي هو عامل مساعد للدخول الى رحاب الشعر , والمثل في ذلك يشبه الى حد بعيد الاستماع الى موسيقى هادئة ونحن نطالع قصائد شعر , ولكي نصل الى حقيقة هذا الشعور الجميل , فأن الشاعرة جعلت المفردات الموسيقية عناوين لبعض من قصائدها , نوتة معلقة, اوركسترا, تراتيل الآس, العزف الأخير , همس مع الذات, ترنيمة مساء قاطر, كما نجد بين ثنايا تلك النصوص لوعة الأنثى الذي يشكل بؤرة النص ووحدة الموضوع , وقد ميزته عن بقية المفردات بتكرار الحرف الأخير لمرات عدة , كاشفة في ذلك تأثرها الذي لا يمكن أن ينقل ويصل الى المتلقي الا بهذا التفرد,وعمدت أيضاً بأن تكون المفردة ووحدة الموضوع والرؤية الشعرية وحدة حسية شعرية متصلة تلامس هواجس وأحاسيس المتلقي , لكي يكون معها في رحلتها مع الذات في كل تنقلاتها والتي لا تحيد عنها في إغداقه بشحنة كبيرة من تلك التداعيات المتداخلة من أجل أن يعيش النص الشعري وهو ملتهب الاحاسيس إثر هذا الشعور المحبب . دون أن تغفل ولو لحظة شعرية واحدة ,بأنها تخاطب بصوت ناعم مفعم بحيوية المرأة وعنفوانها وخلجاتها , وأسرارها وافكارها وتطلعاتها , والتصاقها بنصفها الآخر الذي يمثل لها حالة التوافق الروحي والجسدي , حيث إننا سوف نكتشف تلك الإنتعاشة التي تتسرب من سلوك المرأة وهي تخاطب الرجل فتشكل ذلك السالب والموجب , الذي بتماسه تتولد الشرارات الباعثة للنشوى . فينساب هذا التأثير من ثنايا النص الى وجدان المتلقي , في قصيدة (خافق العمر) نجد هذا التوحد والالتحام بين الاثنين بشكل ملفت للنظر
فأقلب جمر مواقد الذكرى الجاثمة على صدري..
لتاااااريخ
عرجَ بي حيثُ قطاف سفنكَ المأهولة بالرحيل..
مُعمدة بإبتهال مروج امنياتي الخضراء..
لأعاود السؤال الثاقب دمي؟!!..
وانت!!..
تُزيد الطرق على نوافذ صبري..
كي نعبر معاً
عوالم لا تُدرك إلا بتشظي كلينا..
وعن لوعة البعد , وخلجات الشوق الملتهبة في دواخل تلك المرأة العاشقة التي رسمت ملامحها الشاعرة بإتقان ننطلق في تلك التداعيات الساحرة في قصيدة (القرين)
اتلو همساً ما اودعته سراً معك..
من سَمر الأحاديث وأطواق الشجن ..
أتلو لوحدي ..
ولا أخبر أحداً سواي ..
فأنا !!
حين تركتك تجني رياح البعد وحدك..
غادرني كُلي ..
لينوء تحت وطأة تفاحة آدمك المقضومة عمداً..
لأنّي !!
حواؤك التي أخطأت رمي نردها على وجهه السابع..
ولم تخلو تلك المجموعة الشعرية من تنوع في الثيمات والرؤى التي تخاطب الحياة من كل اركانها , وفي قصيدة (القراد) نكون مع القراد حقاً, فطبيعة القراد هذه الحشرة الغريبة والقبيحة , أنها لن تغادر الجسد الذي التصقت به , ولن تبرحه أو تتركه يمضي لحال سبيله , تظل تمتص من دمه , وهكذا حال المارقون السراق الذين ابتلىي بهم هذا البلد , انهم القراد الذي نخر عظام هذا البلد , وافرغوه من كل حلاوته
عُد لأدراجك
من منفى الإتهامات وفن رسم خرائط الفتن..
وتعكّز بجذع صنوبر الغرب..
عُد لمن ختمَ على ورقك بحبر الإفتعال وتهميش الصور ..
فما بقي من مال إدخارك غير وطن مفلس يتلمظ العيش ..
وبعض شناشيل تبكي على زجاجها المكسَر ..
اما قصيدة (لك تفاصيل المطر) التي حملت المجموعة اسمها ,فإنها إنطلاقة حرة لشوق جارف , فليس هنالك متسع لبقاءه مكتوماً داخل الوجدان , هكذا هو عندما يكون الشوق أكثر تأججاً وتوهجاً من الصبر ,
لي في عينيك رذاذ مطر يتساقط كرقصة درويش ثمل ..
يتخاذل عليّ بلعبة إختبائه العصرية..
ليحشدُ في محرابي متاريساً من جيوش الهوى..
افصح عنها في مقدم عيد ميلاده..
لأكووووون!!
نوتة تتراقص على جيد وتره المحسوس..
تؤوب لعالم عشق مكتظ بالحنين ..
أما قصيدة (في الرابعة..إلا أنتِ ) فنعيش , الوقت , الموعد , الإنتظار , الشوق, وتداعيات شعرية حسية عميقة
بهاجس رقاص الساعة انتظركِ
ما غادرني طيفكِ الآسر كالوقت
رغم أنها الرابعة إلا انتِ !؟
إلا انا..
بصمت ليلي الطويل ..تشفقين عليّ بظلمتي
فأكون …
مثل رئة المصباح أومض بكِ
فأزداد بريقاً
أما قصيدة (درويش) فأنها تنقلنا لحالة جديدة , كون الشاعرة تقدم لنا هذا النص من زاوية نظر مختلفة , إذ أنها تقوم بدور المتابع والراصد والناقل لهواجس ومشاعر العشيق تجاه محبوبته
حالما يستكين موجُ البحر!!
تعاوده ذكرى زرقة عينيكِ
وسر هدوئك الأخاذ
فتقف لغته حيالك قاصرة
لا تنفك عن مراودتها
لفتنة الوجنات
كفيلة بتأجيج حرائق الكونِ
ونفوذ جيوشها الجرارة
ثم ننتقل في هذه المجموعة الى الومضات الشعرية المختزلة المكثفة , لنطالع مجموعة من تلك الومضات نأخذ منها
حين انتهت قصتها الطويلة
لم يعد لليل الطويل حكاية
تكبرني بشيء من الحكمة
اكبرك بشيء من الالم
وهكذا فإننا مررنا لبعض من النماذج الشعرية للشاعرة ميادة المبارك في هذه المجموعة الشعرية , التي ضمت العديد من النصوص الشعرية بإفكار ومواضيع ورؤاً متنوعة ومختلفة , خاطبت واقع حياتنا , وما نمر به من أزمات وحكايا تستحق أن تدون , حيث طافت مع الوطن , ومع بغداد , ومع الطفل الغريق , ومع تداعيات الصوت الانوثي المعبر بشكل صادق عن مشاعر المرأة بكل صورها وتقلباتها , وهي تعشق , وهي تفارق , وهي تنتظر الحبيب , وهي تودع , فكانت رحلة موفقة , لشاعرة إستطاعت أن تضع لمسات سحرية جديدة , لواقع بناء قصيدة النثر , وكانت موفقة في ذلك , إذ ان المتلقي سوف لايجد صعوبة بالغة في هذه الاستكشافات , بل أنها ستبدو له جلية واضحة وهي تطرز معالم نصوصها,لتضع لها موطأ قدم واضح ضمن مسار التجديد والتجريب في قصيدة النثر , والذي لا زال يستوعب الكثير من المتغيرات والتحديثات التي ننتظرها في هذا الجانب .