القى الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد المستشار الأقدم لرئيس الجمهورية العراقية / وزير الموارد المائية الأسبق في مؤتمر «أعمدة الأمم الأربع» كلمة جاء فيها

نحن بصددِ موضوعٍ ظلّت السياسة تؤثر كثيراً من خلاله على الثقافة أكثر مما كانت هي تتأثر بالثقافة، وسيكون من الصعب الفصل بين ما هو ثقافي بشأن حسن التعايش ما بين أمم متجاورة وبين ما هو سياسي.
ومن سوء الحظ أننا لا نستطيع أن نلتفت إلى الماضي بحثا عن تجربة طيبة للتعايش. الماضي كان دائماً مجالا لتعايش مفروض بشكل قسري، وكان هذا القسر يُملي ثقافته وتقاليده وأخلاقه على أبناء الأمم. وكان هذا يضاعف مشاعر التمزق والتناحر أكثر ما يدعو للتفكير بحسن التعايش. وربما لسنا وحيدين في تلك الطبيعة، حيث أن ماضي كثير من الأمم المتجاورة شبيه إلى حدٍّ ما بماضينا الذي لا يسعفنا بحلول.
واقعاً ليس هناك ما بين الشعوب ما يبدو على أنه مشكلة. هناك مشكلات في السياسة، والسياسة في منطقتنا فوقية، تعمل بتجاهل يكاد يكون تاماً لما يحصل في الأرضية الواسعة. هكذا كانت السياسة، ومصالحها هي التي زادت من تفاقم سوء التعايش وسوء التواصل ما بين الدول والأمم. والسياسة هي مَنْ تدير الثقافة في دول المنطقة. والثقافة تبدأ من المناهج الدراسية بمراحلها المختلفة، وقبل ذلك في مرحلة الطفولة الأولى. وما أكثر ما تحمل المناهج من ضغائن وتزيد من غلواء الكراهية والتطرف ما بين الشعوب المختلفة.
التاريخ المحمّل بالكثير من الوقائع السيئة، يظهر في المناهج ويقدم للأطفال والشبان على أنه ثقافة أمة وتقاليدها، وهذه الثقافة والتقاليد غالباً ما تؤجج مشاعر الكراهية والعداء.
يجب أن نبدأ من هذه الحلقة إن أردنا للتعايش أن يكون منتجاً وإيجابياً. يجب أن يكون الماضي استلهاماً وعِبرة، وليس أساساً لبناء يراد استنهاضه وإعادة تشييده دائماً. الحضارات لا تبنى بصيغة استئناف حركة الماضي. الحضارة لحظة تطلّع لمستقبل تبدأ من راهن واثق من نفسه، وليس متخاذلاً أمام الماضي وخانعاً له. الماضي مقبرة تنتظر المزيد من الموت.
ولعل عملاً مشتركاً في تنمية ثقافية بين الدول يسهم في تقييد تلك النزعات ويساعد على خلق البيئة الاقليمية المناسبة لتقدم المنطقة والصداقة بين شعوبها؛ خصوصاً وأنّ كثيراً من الأواصر الإجتماعية هي متوافرة أصلاً ما بين شعوب منطقتنا، وقد تمظهرت هذه الأواصر بشكل واضح في الجذور اللغوية المشتركة فيما بيننا. كما أن المصلحة الإقتصادية المشتركة والتجارة المتبادلة إذا ما تمّ إستغلالها بشكل صحيح، وقضية المياه والزراعة المرتبطة بشكل مباشر بمعيشة الإنسان اليومية، والتي توجب العمل على عقد اتفاقيات للمياه الدولية على أحواض الأنهر فيما بين دول الجوار وبما يضمن الوصول الى قسمة عادلة لكمية ونوعية المياه، هي مما يعمل على تقوية وإدامة العلاقات ما بين شعوبنا، وبالتالي تسهم في تسريع عجلة التنمية تحقيقاً للإزدهار الذي ينشده الجميع.
في إطار هذا العمل المشترك يمكن تطويق العصبيات القومية والدينية والمذهبية مع احتفاظ الجميع بحقوقهم القومية والدينية والمذهبية. كما تساعد حركة السياحة والانفتاح على خلق مثل هذه الثقافة. ويمكن أن تبادر بها منظمات وتجمعات ومراكز أبحاث وفعاليات المجتمع المدني، لكن هذا يظل منوطاً بالإرادات السياسية الكبرى الفاعلة، ولا يخفى دور المؤثرات الدولية في تلك الإرادات وفي صنعها وتوجيهها أحيانا كثيرة.
كل هذا لا يمكن البدء به من دون إرادة حقيقية مشتركة قائمة على الثقة وحسن النوايا وعلى الرغبة بصنع مستقبل نتعايش فيه، خارجٌ من هذا الجو المحتقن بالبغضاء والذي بات يلفنا جميعاً.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة