العالم يتقاطر من رأسي

وئام غداس

أدخلتني الممرضة إلى غرفة معزولة في آخر الرواق، الغرفة ضيقة مستطيلة، جدرانها ناصعة البياض وبلا نوافذ، كانت تتسع فقط لكرسيّ كبير مثبّت إلى جانب آلة صغيرة تخرج منها خيوط متشابكة كثيرة يصعب التفكير في عدّها، بعضها أخضر وبعضها أصفر وبعضها الآخر أحمر. الآلة موصولة إلى جهاز كمبيوتر، وعلى شاشة زرقاء كتبت حروف كثيرة بلغة فرنسية، استطعت تمييز بعض الأسماء وتواريخ الميلاد، لكني لم أفهم بقية الكلمات الطبية والأرقام ولم أجتهد لأفعل، أدخلت الفتاة اسمي الثلاثي وتاريخ ميلادي وبدأت تقرن أطراف الخيوط البلاستيكية بمواضع معينة في رأسي، تبتسم وهي تقول أنها ستفسد تسريحة شعري وأدعوها أن لا تقلق أبداً وأن ذلك ليس مهمّاً، تضغط على أحد أزرار الآلة فأرى على الشاشة خطوطاً أفقية متوازية ومتعرّجة، هذه الصورة أعرفها، قبل عام أجريت تخطيطاً للقلب ورأيت ذات الصورة. تؤكد الفتاة اللطيفة أن الأمر سيان ذاك تخطيط قلب وهذا تخطيط رأس، تشخيص لحالة العروق وسير الدماء فيها، تطلب مني قبل أن تخرج، أن أغمض عينيّ حتى تعود وتطمئنني بصوت خفيض أن ذلك لن يستغرق وقتاً طويلاً، تغلق باب الغرفة وراءها بهدوء، أتململ في جلستي وأستقرّ، عيناي مغمضتان، يداي مشبوكتان فوق بطني، أتحسّب ألا أذهب في النوم، كنت مجهدة.
يقطع استرخائي صوت موسيقى خافتة، سرعان ما تبدأ في العُلوِّ رويداً، لا أعرف من أين ينبعث الصوت، من غرفة الانتظار، من مكتب الممرضة، من مكتب الطبيب؟ حسناً هذه عيادة طبيب نفسيّ وقد قرأت مرة أن بعضهم يستعمل الموسيقى كنوع من العلاج، الغريب أنها كانت إحدى الألحان الأمازيغية التي أعشق، وها هو صوت «إيدير» يصدح «ها باباي اينوفا»، يرقص قلبي من التأثر، وأشعر أن صوت قيثارته يعزف في دمي، بلا شعور أفتح عينيّ كأن لسمعي علاقة بالذي سأراه، لكن أذهلني ما رأيت.
الموسيقى تندلق من شاشة الكمبيوتر مثل حمم البركان من فوهته، تسيل على الأرض وتفتح نهراً تحت رجليّ يمتدّ على طول الغرفة المستطيلة، النوتات تسبح في النهر، وبعضها يرتفع في الهواء على شكل فقاعات طائرة.
تقفز من الشّاشة أشجار كثيرة، كبيرة خضراء تتلألأ الأوراق على أغصانها، وتزرع نفسها على جانبَي النهر ثم تأخذ في التمايل مع النوتات الخارجة منه كأنها تلاعبها، غيوم بيضاء تنداح كرغوة صابون كثيفة من مغسلة ثم تستقر في الأعلى بين سقف الغرفة والنوتات الراقصة ملتصقة بعضها ببعض لتشكل دائرة مثل تاج على رأس المشهد.
وقع الأحذية ينبهني لسيل جارف من أشخاص يقفزون واحداً تلو واحد من مربع الكمبيوتر، أتعرف إلى بعضهم ولا أتعرف إلى آخرين. تبتسم لي أمي، لا يلتفت أبي، بينما تغمز لي أختي، تخرج من رأسي خالاتي وعماتي – ليس كلهنّ – وبعض الأقارب الآخرين، رجال كثر أحببتهم في حياتي، نفر قليل من معارفي، صديقة أو اثنتين، رئيسي في العمل، وما سررتُ له حقاً هم جمع من الأصدقاء الفيسبوكيين الذين أحبهم ولم تسعفني الظروف للقائهم بعد، تمكنت من رؤية وجوههم بعيداً عن صورهم في مواقع التواصل.
بعدهم تتطاير الكتب إلى الخارج، كتب كثيرة جداً تميزت بعض عناوينها وكانت مما قرأت وعلق في رأسي.
فجأة يثب ميلان كونديرا، نيتشه، سارتر، ألبير كامو، بروس لاوري، خالد حسيني، ساراماغو، ربيع جابر، تارجي فيساس، رشيد الضعيف، لا أصدق ما أراه هل هؤلاء جميعاً أمامي الآن؟

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة