جمال جصاني
يبدو ان رياح تلك النبوءات المؤلمة لحكيم بغداد (علي الوردي) والذي رحل وحيداً لا تكف عن الصفير بين تجاويف جماجمنا الساكنة. قبل أكثر من نصف قرن، وفي منعرج اللوى حذرنا من سيناريوهات الفجيعة وشظاياها المتناثرة الى ابسط خصوصياتنا الحميمية، ان لم نضع حداً لنمطنا الفكري والسلوكي والقيمي، تلك النصيحة الحكيمة لم تجد اذناً صاغية. أما اليوم وبعد سلسلة الهزائم المتنكرة بدشاديش (الفتح المبين) وفزعات التعبئة والتجييش وأخاديد التمترس وعنفوان التشرذم ومخلوقاته المتدافعة بين خطوط التماس، قد قلصت كثيراً من حظوظ تلك الوصايا، حتى في الحصول على ملاذ آمن..!
البعض لا يرى ضيراً من مثل تلك الاحتفالات لحشود اعتادت التهام كبسولات الفرح والحزن الجمعي، ويعدها بمنزلة استجابة لحاجة الناس لأجواء تداعب أسوار البهجة الضامرة بين كثبان الروح العراقية الحزينة، متناسياً تداعيات ما بعد ذلك؛ حيث مجسات الخيبة المتسللة الى شتى الثكنات الروحية والمادية والقيمية.
لم تعد من الأسرار؛ أسباب وعوامل نهوض أمم ومجتمعات جربت السبات طويلاً، ثم استفاقت لتواجه تحديات عصرها بشجاعة وشرف، حتى أورثت أجيالها اللاحقة ما يستحق الاعتزاز والفخر، البعيدين عن الغطرسة والشموخ الأجوف. هناك حيث الأمم التي فكت طلاسم الأثير وموجاته واكتشفت سجايا الإلكترون ورشاقة النانو تكنولوجي وخرائط جينوم الحجر والبشر…عرفوا ما أطلق عليه بـ (الزعامة الأخلاقية) ذلك المفهوم الذي مهد الطريق لمعظم تلك الفتوحات المشرقة. وفي شوط البشرية المرير صوب الانعتاق والتقدم، أمثلة لاحصر لها عن تلك (الزعامات الأخلاقية) التي نثرت الأمل وشقت جداول للهمة والحماسة وسط الأراضي البكر، وحفزت قطاعات واسعة للانخراط في التصدي لشتى الصعاب.
لن يجدي نفعاً امتشاق ذاتها الديباجات الديماغوجية، لاستقبال حزمات أخرى من ركلات التحديات (القديمة-الجديدة) والإمعان في ممارسة ذات الهواية البائسة عبردغدغة الغرائز المتدنية والقناعات الجاهزة، لحشود لاحول لها ولا قوة، حشود لا تتقن سوى الهرولة صوب مصادر الرنيّن المتصاعد بين آونة وآونة أخرى.
لم يعد هناك المزيد من الوقت لنقايضه بكسرة شموخ ورشفة أمجاد سالف، لم يتبق الكثير من الوقت لنعبث به في جوف الحلقة المفرغة لتبادل ادوار الضحية والجلاد، كي نشحذ موعداً آخر من الأقدار، مع قوات اممية أخرى تساعدنا على فك الاشتباك واعادة الاصطفاف..!